نتابع ما تناولناه في المقال الأول عن تحليلات ومقاربات تقارن طلب سحب الثقة من المالكي بالمؤامرات المتعدد الأطراف على مكاسب ثورة 14 تموز، وما يستنتج من هذا، بالنتيجة، من مقارنة المالكي بعبد الكريم قاسم.
نقول، إضافة لما ورد هناك، إن الجبهة التي تظافرت لقتل الثورة وزعيمها كانت متعددة الرؤوس والأطراف، كان من بينها:
-شركات النفط الغربية، التي انتزعت الثورة حقوق العراق منها. وأما اليوم فليست هناك نزاعات بين هذه الشركات وحكومة المالكي، لاسيما والقليل منها يستثمر في العراق، والحكومة لم تدخل في صراعات مع أحد، باستثناء الاعتراض على نشاط أكسون في كردستان ولا يوجد أي مؤشر على تآمر ما من الشركة ضد الحكومة؛
-الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما اليوم لهما علاقات طبيعية مع العراق، ولاسيما الاتفاقات مع واشنطن. ورغم التشكي الأميركي من التضييق المتصاعد على سفارتها في بغداد وعلى الشركات الأمنية الأميركية ومن تنصل المالكي من تعهدات [كالوعد بعدم إطلاق سراح الإرهابي المجرم دقدقوق]، فإن واشنطن ليست من دعاة تغيير المالكي وذلك لحساباتها العراقية والإقليمية؛
-الإقطاع، الذي ضربته الثورة ضربة قاضية، كما ألغت قانون دعاوى العشائر. واليوم ينشط المالكي في مواصلة خطة صدام في تشجيع العشائرية وشيوخ العشائر لحد أنه أقام من مجموعة من الشيوخ [ عشائر الإسناد]، أي إسناد شخص المالكي. وبعض هؤلاء نزلوا في بغداد للاعتداء على المظاهرات السلمية. ومنهم من دعا الأكراد في بغداد للنزوح وإلا فالويل لهم؛
-البعثيون، واليوم فإن أكثر قياداتهم في سوريا بحماية الأسد، الذي يدعمه المالكي برغم كل مجازره. وهو الذي صرح عن الأسد: quot; ولماذا يرحل! لن يرحل!quot;؛
-الحركة الكردية المسلحة، واليوم فما يبدو هو أن القيادات الكردية ما بين من يدعو لسحب الثقة ومن يرفضون ويدعمون المالكي؛
-مصر الناصرية. وأوضاع مصر اليوم غيرها بالأمس؛
-إيران الشاه. واليوم فإن إيران الخمينية هي التي وضعت التاج على رأس المالكي في ولايتيه! ونتذكر الزيارات المكوكية للأحزاب الشيعية لطهران في أعقاب الانتخابات الأخيرة التي لم يفز فيها المالكي بالمركز الأول، وما تمخض عن تلك الزيارات المكوكية من عودة quot; الإتلاف الوطنيquot;، وتطويع القضاء ليفتي بأن الفائز هي مجموع أحزاب الإتلاف، وذلك خلافا لكل الأعراف والتقاليد والقواعد الانتخابية الديمقراطية في العالم. وفي معمعان الخلافات بين المالكي ومقتدى الصدر[ تراجع هذا عن طلب استجواب المالكي] عيّر التيار الصدري نفسه رئيس مجلس الوزراء بأن من جاء به لمنصبه هو نظام الفقيه. وتلك واحدة من غرائب العراق الجديد: أي أن يصدر هذا من فئة هي نفسها صنعتها إيران قلبا وقالبا. وحول هذا تذكرنا صحيفة [الجديدة] العراقية بمخاطبة أحد رموز التيار الصدري للمالكي، وهو أمير الكناني، حيث قال له:quot; إن الجميع يعرف من جاء بك إلى رئاسة الوزارة وهو الجنرال قاسم سليمانيquot;؛
-الإسلاميون والمرجعية الشيعية بالذات، التي لم تصدر برقية تهنئة بالثورة وأدانت القانون المدني للأحوال الشخصية واعتبرته خروجا على الدين، وانضمت لأعداء قاسم بنشاط. وفي الاحتفالات بمناسبة وصول quot;شباك العباسquot; من إيران عام 1961 كان المتظاهرون يهتفون quot; ما كو زعيم إلا حكيم.quot; وأما السيد محمد مهدي الحكيم فقد أنكر أن قاسم كان مسلما مع أن الزعيم كان من المعجبين بالإمام علي.[ انظر البحث الممتاز الذي نشره الدكتور علاء الدين الظاهر في مجلة الموسم عام 1997]. ويروي حسن العلوي في كتابه quot; الشيعة والدولة القومية في العراقquot; أن الشهيد السيد محمد باقر الصدر [ زعيم الدعوة] كان ينشر مقالات ضد الثورة باسم مستعار. واليوم، فهل المرجعية ضد المالكي!!
أما عن شخص قاسم والمالكي، فالقليلون يجرؤون على المقارنة السافرة بينهما رغم أن هذا هو ما يقصده البعض ضمنا.
إن عبد الكريم قاسم، برغم أخطائه وعيوبه، كان قائدا علمانيا يذوب في حب العراق والعراقيين، وهو الذي قال quot; إني سوف أفنى في سبيل خدمة الشعب، وبعد مماتي، سوف تبقى روحي نصيرا له.quot; فحاكمية الشعب كانت مرجعيته السياسية والروحية لا حاكمية جزء واحد من أجزاء الشعب العراقي ولو كان أكثرية. وكان قاسم يتميز بالتسامح الديني والعرقي، ولا يقود حزبا ما، ولم يعين أحدا من أقاربه والمحسوبين عليه في مناصب تذكر، ولم يسيس الجيش والأجهزة الأمنية. وشجع الفنون، وعين أول وزيرة في العراق وعلى النطاق العربي كله. وقاسم كان عفيف اللسان ونزيها يوزع من راتبه البسيط على المحتاجين. وقد رث عن أمه قطعة أرض في الصويرة فطلب إقامة مدرسة للبنات عليها. فهل هناك يا ترى أي وجه لمقارنته بأي من ساسة العراق اليوم، أومقارنة عهده بعهد الفساد والطائفية ومحاربة حقوق المرأة والفنون ومسايرة النظام الإيراني وتسييس وشخصنة القوات الأمنية والقوات المسلحة وتطويع القضاء ومحاربة الحريات؟؟!! قاسم كان يرسل قوات لحماية متظاهرين معادين ينادون بموته، والمالكي يتهم مظاهرات سلمية تدعو للإصلاح بالبعثية والقاعدية، ويتغاضى عن عمليات العدوان على المتظاهرين الذين لم يطالبوا بإزاحته بل بتوفير الخدمات ومكافحة الفساد.
وبالعودة للأزمة السياسية، وخصوصا للتوتر المشتد بين الحكومة المركزية وحكومة كردستان، فمن الواجب الوطني الملح أن ننبه من جديد وجديد، وأن نحذر طرفي التوتر المتصاعد، وكل القوى السياسية من عواقب التصعيد المستمر في المواقف والإجراءات والخطاب. وها هو السيد المالكي يتوجه للأجهزة الأمنية [ نعم لرجال الأمن] للتدخل لحماية الدستور وquot;إحقاق الحق وإقامة العدل وحماية الثروات الوطنية من الناهبين والسارقين والضرب بيد من حديد على كل من يعبث بأمن البلاد واستقرارها وسيادتها، وهي مهمة ترتبط بحماية الدولة ونظامها السياسي وبالدستور. وإن الواجب يدعوكم إلى الحفاظ على هذه الثلاثية وعدم السماح لأحد بالخروج عن القانون والدستور.quot; إنه حقا لتوجه ديمقراطي مثالي! فقد تجاوز القانون والبرلمان وجعل من رجال الأمن هم السدنة على سيادة العراق والدستور والقانون، وبلهجة تهديد ووعيد لمن يقصدهم ويحذر منهم. وهذا مع أن حكومته أول من يخرق الدستور والقانون كضم الهيئات المستقلة لمكتبه ومحاولة سلب استقلالية البنك المركزي، وكضرب المظاهرات السلمية، وحظر الفنون والغناء، واستعمال ملفات الفساد والإرهاب كأدوات ابتزاز لهذا الخصم السياسي أو ذاك وهو ما يستوجب لوحده محاسبة رئيس مجلس الوزراء عليه. وماذا يا ترى عن اعترافات السفير السوري المنشق على نظامه والتي أكد المعلومات، التي سبق لنا ولغيرنا التأكيد عليها عشرات المرات، عن حماية ودعم وتشجيع النظام السوري لإرهابيي القاعدة وغيرهم للتسلل لعراق لقتل العراقيين وتنفيذ التفجيرات ومشاغلة القوات الأميركية، وذلك بالتحالف التام مع نظام الفقيه الذي كان يستخدم عناصر قيادية في القاعدة لعمليات التخريب في العراق ومنهم الزرقاوي. ولا يعقل أن حكومة المالكي كانت تجهل هذه المعلومات التي نشرت عنها تقارير صحفية وتصريحات معروفة مرارا وتكرارا. ومع هذا، فإن الحكومة تعلن عن نية ملاحقة السفير بينما هي تدعم النظام السوري الذي كان يأمر سفيره بان يفعل كذا وكذا.
الدكتور علاوي قال مرة: quot; كلنا قد فشلناquot;. وهذا صحيح، لأن الأزمة الحالية ليست من صنع فرد واحد مهما كبرت مسئوليته ودوره. إنها أزمة النظام السياسي نفسه الذي يعتبره المالكي في خطابه الأمني معادلا للدولة العراقية وسيادة العراق مع أن هذا النظام السياسي هو أساس المشكلة وجوهرها، وأي حديث عن الإصلاح لابد وأن يبدأ بمراجعة هذا النظام أو ما يسمى بالعملية السياسية، القائمة على المحاصصة الطائفية المذهبية والسياسية والعرقية، وعلى دستور تعني عملية الإصلاح الحقيقية البدء بشطبه وإعداد دستور ديمقراطي علماني بدلا منه. وهذا ما لا يمكن أن تقوم به الحكومة الحالية ولا حكومة مشابهة تقوم على الأسس المعوجة نفسها، بل حكومة تكنوقراط وطنية مؤقتة و مختصرة من ذوي الكفاءات والخبرة والحمية الوطنية العراقية والوعي الديمقراطي. وقد سبق لنا تناول هذه الموضوعات أكثر من مرة، وعلى مدى سنوات.
-إيلاف في 22 تموز 2012