صحيح أن للأزمة العراقية أسبابا وأبعادا إقليمية ودولية، وأن التدخل الخارجي هو من العوامل المهمة لدوام وتعمق هذه الأزمة. وبقدر ما يتعلق ببقاء المالكي في منصبه حاليا، فيبدو أن ثمة توافقا غير معلن على ذلك بين إيران وواشنطن. وهو اتفاق موضوعي ومن منطلقات مختلفة ولغايات متضاربة. وتحرص إيران خاصة على هذا لأسباب كثيرة في مقدمتها اليوم الوضع السوري ودعم حكومة المالكي لبشار الأسد. وقد نشرت صحيفة الحياة في 2 تموز الجاري مقالا للصحفي الإيراني محمد صدقيان من طهران يلخص موقف القيادة الإيرانية من الموضوع وحيث يرد: quot; إيرانيا لا ترى القيادة أي جدوى من تغيير رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، في الظروف التي تمر بالعراق أولا، والمنطقة ثانيا، خصوصا ما يتعلق بالتطورات السورية، والاصطفاف الغربي ضد النظام السياسي السوري الحليف لطهران...quot;
غير أن العامل الخارجي لا يكفي لتفسير ما يجري من صراعات، وعمليات فساد، وتدهور أمني، وانتشار الطائفية، وأسلمة المجتمع العراقي تدريجيا بزعامة حزب الدعوة، وانتشار الفقر، وغير ذلك من مظاهر مروعة.
العراق قد مر بفترات كشف فيها العقل السياسي العراقي عن مدى عدم شعور نخب سياسية حاكمة بالمسؤولية تجاه البلد والشعب، ومن ذلك إشعال الحرب مع إيران، وغزو

الحلقة الأولى

الكويت، واللعب مع فرق التفتيش الدولية حول الأسلحة المحظورة برغم التحذيرات والتهديدات. واليوم، فإن العقل السياسي، الذي يحكم العراق، يتحمل قبل غيره مسئولية كل ما يجري، واجدا مناخا ملائما فيما خلفه النظام السابق من خراب سياسي وأخلاقي وفكري واجتماعي، ومن عواقب مظالمه التي طالت الجميع ولاسيما الشيعة والكرد.
أطراف الحكم العراقي يتصارعون، ويهدد بعضهم بعضا ب quot;فتح الملفاتquot;، أمنية كانت او ما يخص الفساد. والسيد المالكي هو الأستاذ الأكثر قدرة ومهارة وممارسة في هذا المجال. والتهديد بنشر الملفات وعدم نشرها يدلل، كما يقول الكاتب الصديق الدكتور كاظم حبيب، على أن الكثيرين متورطون، وبيوتهم من زجاج، ويخشى بعضهم رمي الحجارة على البعض الأخر. وهم يمارسون مبدأ quot; اسكت لكي أسكت عنكquot;. وتكون هذه الممارسة شديدة الخطورة حين تمس الأمن العراقي وثرواته المهدورة، ولاسيما حين يمارسها من بيديه عتلات الحكم ومفاصله الكبرى والحاسمة، وأعني المالكي. إن الأطراف السياسية في الحكم في واد ومصالح الشعب في واد، وكل يمارس ما سمته صحيفة أميركية عام 2010 ب quot;رياضة قتل الآخرquot;. إنهم يتشاتمون ويهدد بعضهم بعضا، ويندر تماما من يتقبل الملاحظة والنقد منهم.
نعم، المسئوليات عن الدوامة العراقية الراهنة مشتركة، ولا يجب تغييب مسئولية أي طرف، ولكن أيضا ليس صحيحا محاولة تغييب المسئولية الأكبر لمن لعب الدور الاستثنائي في تفجير الأزمة ودوامها.
للأطراف الكردستانية دورها دون شك، ولاسيما في تحالفها quot; الاستراتيجيquot; مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الحاكم قبل سقوط النظام السابق وبعده. وهو ما يسمونه quot;التحالف الكردي ndash; الشيعيquot;، وكأنما الأحزاب المذهبية الشيعية تمثل كل شيعة العراق وجميع التيارات الفكرية والسياسية بين الشيعة. كما أن هذا المفهوم، أي كردي- شيعيquot; يتجاهل بقية مكونات الشعب العراقي. ومن هذا المنطلق، أيدوا مطلب إقامة إقليم الوسط والجنوب الطائفي، وتجاهلوا كل ما يجري في أنحاء العراق من تضييق على الحريات العامة والشخصية، ومحاربة للعلمانية ومن خطوات الأسلمة، وكأنها لا تعنيهم. كما لم يكن صحيحا إطلاق تصريحات باسم حق تقرير المصير فسرت بنية الانفصال؛ وهكذا من ممارسات ومواقف سبق لي التوقف عندها من موقع الحرص الوطني وكمواطن ومثقف عراقي كردي.
ودور quot;العراقيةquot; هو الآخر واضح بسبب تذبذب المواقف وتناقضاتها، والتهديد والتراجع وعدم الانسجام داخل العراقية نفسها. وأما مقتدى الصدر، فقد أبدينا في الحلقة السابقة رأينا في مواقفه وممارساته. وها هو ينسحب من موضوع quot;استجواب المالكيquot; بعد أن كان من أبطاله. والغريب أن يصدق السيد رئيس الإقليم والدكتور علاوي ما يقوله الرجل ويتعهد به.
إن طلب استجواب رئيس للوزراء أو سحب الثقة من حكومته هو من أوليات العمل الديمقراطي السليم، ولكن عقلية حكام اليوم تعتبر ذلك عدوانا لا على شخص المالكي وحسب، بل وكذلك إساءة لكل العراق. وهذه العقلية لا علاقة لها بأية quot;مؤامرة أميركية ndash; إسرائيليةquot;!! ولا علاقة أيضا لانتشار الفساد، وتحجيب الصغيرات، وفصل الطالبات عن الطلبة في المدارس والجامعات. ولا علاقة أيضا لترك عشرات المولدات الكهربائية في ميناء خور الزبير بالبصرة منذ 2007، والتي اشتريت بالملايين، بينما يعاني العراقيون من مشكلة الكهرباء. ولا علاقة للشهادات المزورة التي صدر عن حملتها عفو حكومي، ولا لحظر الغناء والرسم والنحت بينما يستوردون للنجف من إيران تماثيل شمعية للعشرات من الشخصيات الشيعية الراحلة والتي على قيد الحياة. ويمكن تعداد غير هذا كله من ممارسات وظواهر يتحمل الحكام ومن معهم مسئوليتها. كما أن الغريب أن الجميع يتحدثون عن الدستور، ولكن بطريقة انتقائية ومنهم من ينتهك بنوده، وفي المقدمة السيد رئيس مجلس الوزراء نفسه، حين يضم لمكتبه مؤسسات هامة يجب أن تبقى مستقلة، وحين يتحدى البنك الرمزي ويعاديه لان مدير البنك يتمسك بالقانون وبسلطة رقابة البرلمان.
والحل؟ العراق مرشح للبقاء في الدوامة سنوات أخرى، وهذا محزن ومأساوي. والمواطن quot;الخايبquot; هو الضحية. وقد صار العراقي، على حد توصيف عراقي طريف، ولكنه مؤلم:
quot;مشكوك فيه دوليا، مظلوم وطنيا، محترق صيفيا، مثلج شتويا، محروم نفطيا، ممنوع كهربائيا، مفخفخ يوميا، مفلس ومهتلف سنويا، تعبان واحرق جد جده نفسيا.. ومرفوع رأسه إن شاء الله أبديا؟؟!!quot;

ملاحظة: بعد كتابة المقال جاءت الأنباء بانتهاء أزمة سحب الثقة بعد لعبة الصدر. وعادت الأمور quot;إلى مجاريهاquot; بإشارات خارجية! وأما العراق؟!!!!