دوامة الأزمة السياسية العراقية مستمرة، ولا بصيص نور للخروج من النفق.
سحب الثقة من السيد المالكي، حتى لو تم، لن يحل الأزمة لأنها أعمق وأشمل من مسالة الشخص الواحد برغم أنه هو الذي يتحمل الجانب الأكبر من المسؤولية بحكم مراكزه الخطيرة التي يحتكرها مع مكتبه وحزبه. صحيح أنه لو كان فقط مجرد وزير للداخلية، لكان عليه تقديم استقالته منذ زمان لأن دماء العراقيين لاتزال تفيض في الشوارع والطرقات برغم تصريحاته المطمئنة من وقت لآخر، وهذا ما سماه الكاتب غالب حسن الشابندر بمحنة الوهم الذاتي، في مقالته quot; رئيس الوزراء العراقي ومحنة الوهم الذاتيquot; [ إيلاف في 13 تموز 2011 ]. وغير المالكي بين الساسة العراقيين من هم مثله أو أسوأ. ولا نعرف كيف يتصدي مقتدى الصدر لتصحيح الأوضاع و يتصدر المعارضة وهو من هو في تفجير الفتن الدموية في بغداد وكربلاء والنجف والبصرة، وله من بين جيش المهدي التابع له غالبية من فدائيي صدام، وهو الذي لا يكتم ولاءه المطلق لنظام الفقيه الذي نصب منه quot;حسن نصر الله العراقquot; على لسان خامنئي.
أجل القضية أعمق وأوسع من قضية شخص المالكي برغم دوره الاستثنائي في تدهور الوضع العراقي. كما أن القضية لا تزاح بترديد نظريات quot;المؤامرة الدوليةquot; على العراق، وquot;المؤامرة الأميركية ndash; الإسرائيليةquot; على وجه الخصوص. وهي لا تزاح بحرف الوقائع وتدوير الأرقام والإحصائيات، كما يفعل بعض الكتاب العرب الإسلاميين والقوميين من أمثال فهمي هويدي، الذي ظل يردد أن بوش خلف وراءه مليون قتيل عراقي، وأنه تسبب في يتم 4 ملايين من أطفال العراق. وهناك من يرفعون عدد القتلى لمليونين ونصف، في عملية خلط وتزييف ما بين ضحايا حروب ومغامرات العهد السابق وبين ضحايا الحرب الأخيرة والإرهاب المتعدد الرؤوس. وقبل أقل من عامين، نشرت الحكومة العراقية نفسها رسميا أن عدد القتلى منذ الحرب بلغ حوالي 71000 قتيل معظمهم من المدنيين. ويبدو أن الرقم لا يتضمن من سقطوا من الجنود الأميركيين والإنجليز وحلفائهم. ونحن نعرف أن الضحايا لم يسقطوا فقط بسبب عمليات عسكرية، سواء كانت أميركية وحدها أو عمليات عراقية ndash; أميركية مشتركة، وإنما أيضا، والأكثرية من الضحايا، بسبب عمليات الإرهاب من تفجيرات وقتل بالكواتم وغيرها، مما تتحمل القاعدة والمليشيات المحلية ومسلحو النظام السابق مسئوليتها. ونعرف أيضا أن جميع الإرهابيين المتسللين من الخارج كانوا يمرون من الحدود السورية وبعلم أمن النظام السوري ومخابراته، وهو نفس النظام الذي يسانده المالكي اليوم، ونفس النظام الحليف لإيران التي تمد مخالبها لجميع أنحاء العراق.
لقد خلف النظام السابق ما بين مليوني ضحية من قتيل وجريح في حروبه ومغامراته وأنفاله وغازاته. كما خلف ملايين من اليتامى ومئات الآلاف من الأرامل. وتزايدت الأعداد بعد انهيار ذلك العهد، ولا تزال في ازدياد؛ هذا فضلا عن ملايين المهاجرين والمهجرين.
أجل، قبل توجيه الاتهام للآخرين، [وبينهم متهمون عن حق]، يجب أن نفحص أنفسنا نحن، أي نحن العراقيين، والقصد أولا النخب السياسية، وخصوصا الحكام المتعاقبين، ودون أن نعفي المثقفين المسيسين. ولا نعفي أيضا المجتمع والعادات والعقليات السائدة.
إن من السهل اختلاق الأرقام وإطلاق الإشاعات. ونذكر المعلومة المزيفة التي أطلقتها قناة الجزيرة في الأسابيع الأولى من الانفجار المصري عن نهب مبارك وعائلته لسبعين مليار دولار. ورددت الغارديان- الصحيفة التحريضية- نفس المعلومة لأيام بعد أيام، حتى إذا تبين الكذب، اعترفت الصحيفة البريطانية بالخطأ، ولكن الجزيرة لم تعتذر لأنها هي التي كانت في أصل تلك الأكذوبة. وبالطبع لم يعتذر المتظاهرون في الميدان الذين ظلوا يلعنون مبارك بحجة السبعين مليارا. أما الإشاعات، فما أن تبث وتروج، حتى يصعب إزالة أثرها من النفوس والأذهان كالماء الذي إذا سكب، يصعب لمه. وهذا التشبيه ليس لي.
منذ أيام ذكرني الصديق الدكتور فاضل الجلبي، الخبير النفطي والمحلل السياسي العراقي، بما كان يردده باللهجة العراقية المغني الشعبي العراقي عزيز علي: quot;يا دكتور، عالجنا يا دكتور، فالداء الذي فينا هو مناquot;. والأزمة العراقية الراهنة هي أولا فعل عراقي، ومسؤولية عراقية، وبعدئذ هي فعل خارجي ومسئولية خارجية متعددة الأطراف، والطرف الإيراني قبل سواه. وهذه الأزمة لا تنحصر في دور شخص المالكي وحده، بل يجب الغوص في مجمل العملية السياسية القائمة على المحاصصات العرقية والطائفية وعلى الصراعات من أجل المناصب والثروات والامتيازات، والتي جاءتنا بدستور قائم على أحكام الشريعة ويبعثر الصلاحيات وتضرب بنوده الواحد الآخر. ومع مرور تسع سنين على سقوط النظام السابق فإن الأوضاع لا تقل عن أوضاع العهد السابق سوءا في مختلف المجالات. أما الأميركيون، فقد صاروا شبه محاصرين في العراق، ولاسيما مع أزمة الوضع السوري والانحياز الحكومي العراقي للنظام الأسدي. وراح مقتدى الصدر يطالب بمنع الأميركي من السير بحرية في الشوارع، ويجري اعتقال الأميركيين بحجة محاولة اغتيال محافظ بغداد!! وتحتجز السلطات العراقي باستمرار المتعاقدين الأميركيين، وتعطل القوافل التي تجلب من الكويت احتياجات للسفارة الأميركية، وغير ذلك من مضايقات نوقشت مؤخرا في اجتماع لوزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، ولخصت نتائجه وكالة رويترز في 29 المنصرم. ولا نعرف ما إذا كان إدارة أوباما سوف تتعظ بهذا الدرس العراقي وهي تمد يدها بكل قوة للإخوان المسلمين في مصر!!!
إيلاف في ا تموز 2012