تدفعني لكتابة هذا المقال، من جهة، سلسلة متواصلة من مقالات تحامل متشنج على النظام الأردني وقيادته على مدى أسابيع وشهور؛ ومن جهة أخرى، مقال الأستاذ عبد الرحمن الراشد منذ أيام، في عتاب ودي وإيجابي للأردن على ما يصفه بالصمت عن الوضع السوري الدموي، أو quot;الامتناع الأردنيquot;.
في البداية، ثمة فرق جوهري وحاسم بين المعالجتين ومحاورهما. فأما سلسة مقالات بعض المثقفين المعروفين، تشريحا متواصلا لسياسات وخطوات الأردن الداخلية، فإنها لا تدخل في باب النقد البناء برغم أنها تكتب بعنوان المطالبة بإصلاحات ديمقراطية داخلية. وأما مقال الراشد، فهي تخص الوضع المأساوي السوري حصرا، وهي أقرب للعتاب الأخوي، ومن منطلق الحرص على الشعب السوري الذبيح.
ما يعاتب الراشد الأردن عليه في الموقف من سوريا هو عدم اتخاذ موقف إدانة واضحة لما يجري من مجازر، وعدم اتخاذ خطوات لquot;دعم الشعب السوري عند حدوده معه،quot; دون توضيح ما هو مطلوب بالضبط. وهذا كما يقول لا يعني quot;أن عليه أن يفعل عما امتنعت عن فعله تركيا، أو ينخرط في اشتباك مع النظام السوري.quot; إذن ماذا؟؟
بصراحة، لا أفهم ما يجب على الأردن اتخاذه بالنسبة للحالة السورية المأساوية؟ وكيف نقارن الأردن بتركيا العضو في الأطلسي، والتي لها جيش قوي وإمكانات طبيعية واقتصادية كبرى، فضلا عن حدودها الواسعة مع سوريا؟
الأردن بلد صغير، وكثيرا ما كان- وباعتراف الراشد- موضع تخريب النظام السوري وحليفه الإيراني. والأردن بلد فقير بإمكاناته الطبيعية والمالية، وهو يعاني من سلسلة أزمات اقتصادية ومالية، وقد استقبل حوالي نصف مليون مهاجر عراقي معظمهم من المسيحيين الذين يعرضوا لحملات اضطهاد في العراق. والأردن مجاور للعراق، الذي تحكمه حكومة موالية لإيران، وهي تساند النظام السوري بكل الطرق الممكنة. والأردن ليس بعيدا عن خطر تخريب حزب الله وحماس. وهو في دائرة الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل، وعنده جالية فلسطينية كبرى يتعاطف بينها من يتعاطفون مع حماس. ومع ذلك، فقد استقبل الأردن أعدادا كبيرة من النازحين السوريين، وما يترتب على ذلك من تبعات وواجبات وإجراءات. والنظام الأردني يعاني من التحركات الفوضوية والمتشنجة المستمرة للإخوان المسلمين وبعض quot;المياسرينquot; والقومانيين، وذلك باسم الإصلاحات مع أن الإخوان الأردنيين، وكبقية زملائهم في المنطقة، هم أعداء الديمقراطية وهم دعاة فرض أحكام الشريعة والدولة الدينية برغم قبولهم بالمشاركة في الانتخابات.
نعم، إن الأردن في حاجة إلى مزيد من الإصلاحات الديمقراطية والانفتاح، وهو الذي يمتلك نخبة متميزة من الساسة المعتدلين ومن الجامعيين والمثقفين ولديه جامعات راقية.
الأردن ليس بالتأكيد ملكية دستورية على النمط الذي تحكمه الملكة أليزابيث، أو ملوك السويد وهولندا وبلجيكا وأسبانيا مثلا. ولا تزال أمام الأردن خطوات لابد منها لتعميق وتوسيع الإصلاحات الدستورية في السير المتدرج نحو ملكية دستورية. ولكن الوضع الأردني يتميز، في الوقت نفسه، بمساحة واسعة من الحريات العامة والشخصية، وانتخابات برلمانية متقدمة وإن لم تكن مثالية، وإن نظامه معتدل ومنفتح ومرن، وله شرعيته.
إن النقد البناء باتجاه التوسع في الانفتاح الديمقراطي مطلوب وواجب، ولكن التحامل والتحريض، وتبشيع كل خطوة إصلاحية تتخذها الحكومة والعاهل الأردني، هو غير ذلك، حتى ولو كان الإصلاح جزئيا وغير مثالي. وسيكون خطيئة كبرى أن تقترن أصوات مثقفين علمانيين بتحركات وضجيج الإخوان المسلمين الذين لديهم منطلقات وغايات أخرى غير ما يريده بعض العلمانيين الذين يريدون حرق المراحل في وضع داخلي وإقليمي حرج وخطر. وسيكون خسارة كبرى لشعوب المنطقة والعالم لو وصل خطر ظلمات الشتاء الإسلامي الداهم للأردن أيضا، وهو الذي لا يزال بمثابة شمعة من الشموع النادرة في المنطقة. وأما الشعب السوري المستباح، فله رأي عام دولي يزداد كل يوم إدانة لنظام الأسد ودعما لنضال شعبه. وأما المطالبات بالتدخل الدولي المباشر لإزاحة الأسد، فأمرها لا يعتمد على حكام الأردن، بل على مجلس الأمن والأمم المتحدة. ونعرف الدول المعارضة هناك. والأحرى توجيه النقد للهيئات الدولية المعنية، ولاسيما لروسيا والصين وليس- كما كتب أحد المعلقين- للأردن quot; الغلبان، الذي ينتهي من مشكلة وتأتيه مشكلة أخرى، ومن 1948 لم يسترح.quot;