هل حقا هناك فراغ سياسي في عراق اليوم: كلا بالطبع، ولكن المقصود هنا غياب العقل السياسي المرن والديمقراطي، المؤمن بتداول السلطة سلميا، وباحترام الحريات الأساسية والشخصية، والمتصف بالنزاهة، والارتقاء فوق الولاءات الفرعية، والاستعداد للاعتراف بالخطأ وتحمل مسئوليته، بما في ذلك الاستقالة من المنصب لو كان المخطئ في منصب مهم وكان الخطأ كبيرا.
عراق اليوم لا يحسد على أوضاعه المتردية، والتي تزداد ترديا كل يوم: ما بين الصراعات السياسية الدائمة، واستحواذ الشخص الواحد على المناصب الكبرى، وتخريب التعليم، وانتشار الفساد، وجفاف النهرين وشط العرب، وأصابع قاسم سليماني في كل جزء عراقي وفي كل مفصل. ولعل في مقدمة العلل العراقية طغيان الطائفية المذهبية والسياسية بفعل ممارسات أحزاب الإسلام السياسي ورجال الدين وبعض المثقفين. وهذا المرض الخطير تعاني منه أيضا دول ومجتمعات عربية أخرى. ووقفة الحكم العراقي مع بشار الأسد مثال من الأمثلة الصارخة على هذا الوباء.
السيد المالكي ينوي استدعاء لفيف من الباحثين الأميركيين ليروا، كما يقول أنصاره، أنه ليس بالحاكم الفردي الذي يريد احتكار السلطة. ولكن، قبل شهادات الآخرين، هناك الحقائق الميدانية التي تنطق بالحقيقة، ولاسيما استمرار احتكار المناصب الأمنية، وإلحاق المؤسسات المستقلة بمكتبه، ومحاولات ربط البنك المركزي به. كما أن كتابات عراقية وعربية في كيل المديح لا يمكن لها أن تفسر لنا ديمقراطيا هذا الهجوم على العلمانية والحداثة في خطب المالكي، والتحريض ضدهما كإلحاد تجب محاربتهما. وأية ديمقراطية مدنية إن لم تكن علمانية؟! والإسلاميون جميعا، من عراقيين وعرب، يعرفون جيدا أن العلمانية لا تعني محاربة الأديان، بل، هي على العكس، تحترم وتضمن حرية العبادة والعقيدة للجميع. كما لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية عندما يطارد أساتذة الجامعات ويستعاض عنهم بأمثال رئيس جامعة النهرين، الذي قاد منذ أيام فريقا مفتول العضلات لمطاردة الطلبة الذين كانوا يحتفلون بالتخرج عن طريق ملابس تنكرية. يومها صرخ بهم هذا الرئيس العتيد بهياج: quot;إن لم تنزعوها حالا، فسوف أشبعكم ضربا بالحذاء!quot; ترى ماذا سوف يكتب الفريق الأميركي- لو جاء- عن هذه الممارسات التي تجري تحت إدارة وزير quot;دعوويquot;، من أحباء الولي الفقيه، وأقرب مساعدي السيد رئيس مجلس الوزراء!! ويقال، والعهدة على الراوي، أن الوزير الهمام لا يحمل شهادة ثانوية؟؟ وأما أحد رموز حزب الدعوة، فيصرح بان حرية التعبير تحترم اليوم في العراق أكثر مما تحترم في بريطانيا! هذا بينما المنظمات الصحفية والإنسانية الدولية تضع العراق في مقدمة الدول- ومنها الصومال- التي لم يقدم فيها للتحقيق والمحاكمة أي من قتلة الصحفيين العراقيين؛ فالقاتل مجهول في كل مرة. ألا كم في تصريحات بعض الساسة الإسلاميين من تبجح فارغ ومن بعد تام عن واقع الحال!
ذكرني صديق من الساسة العراقيين quot; المخضرمينquot; بالمثل القائل: quot; في الحفرة العميقة تكثر الثعابين.quot; والفراغ السياسي العراقي، [ بالمعنى الذي أوضحته]، هى الحفرة التي تأوي اليوم ثعابين الطائفية، والفساد، والتحايل على الانتخابات، والميل لإقصاء الآخر وللاحتكار، وتهميش الولاء الوطني والوفاء للشعب لصالح الحزب والطائفة والعرق والشخص والعائلة.
نعم، إن مسؤولية كبرى عما يقع اليوم تتحمله سياسات النظام الصدامي: من التنكيل الوحشي يالتيارات والقوى الديمقراطية، وحكم الفرد والعائلة، والمغامرات العسكرية داخلا وخارجا، وما سمي بالحملة الإيمانية في العقد الأخير من ذلك العهد الدموي. هذا كله صحيح، وصحيح أيضا أن ذلك لا يمكن لوحده أن يفسر لنا هذا الانفلات الطائفي بعد سقوط النظام السابق وهذا الجشع للمال والسلطة، وهذا التقرب بلا حساب من نظام الفقيه، الذي لم يختر غير بغداد الإسلاميين لعقد الجولة الجديدة من المفاوضات النووية العقيمة.
المشكلة الكبرى هي أن الطبقة الحاكمة اليوم برهنت على عدم جدارتها بالمسئولية رغم مرور حوالي العقد على سقوط صدام. ونظرية أن ذلك النظام مسؤول عن كل شيء هي من بطن عقيدة quot; المؤامرةquot; الحبيبة لدى ساسة العرب ومثقفيهم على نطاق العالم العربي. فالآخر- الاستعمار والصهيونية- وحده المسؤول عما يجري، وأما نحن، فمجرد ضحايا! فلا استعداد للمراجعة، ولا ذرة استعداد للاعتراف بالخطأ، وذلك بالعكس تماما مما يجري في الديمقراطيات الحقيقية في الغرب.
ونقول إنه برغم هذا وذاك، فإن المسئولية يجب أن تشمل أيضا كل الأجيال السياسية العراقية في العصر الحديث، التي ندر بين ساستها من كانوا يتصفون بالمرونة والواقعية وحسن التقدير وذلك برغم حسن نوايا الأكثرية بينهم. ولذا يصح القول أيضا: هذا ما جنيناه على العراق وعلى أنفسنا: لقد ساهمنا في وصول العراق إلى حفرته الكبيرة وإلى البديل الثعباني الحتمي، وهو الأسوأ من كل ما مر على الشعب العراقي. ولعل دول ما يسمى بالربيع العربي مرشحة لكي يحل بها ما حل بالعراق، فالحفر هناك تزداد، وثعابين الإسلاميين هي التي راحت تعلو وتهيمن ما لم تقع معجزات!