تواصل الاستطلاعات ترجيح فوز المرشح الاشتراكي هولاند. يمكن القول إن هذه الانتخابات كانت شرسة واستعملت فيها أسلحة بغيضة ومنفرة.
عندما فاز سركوزي عام 2007 هب شبان الضواحي واليسار المتطرف لإشعال مظاهرات تنديد في الليلة نفسها، وقد أحرقت السيارات، واستعملت الحجارة وغيرها تعبيرا عن عدم القبول بفوز سركوزي مع أنها هي اللعبة الديمقراطية. أما اليوم، فقد شاركت في الحملة ضده جهات غير فرنسية، من أمثال طارق رمضان ورئيس وزراء القذافي السابق السجين، الحاقد طبعا لأن فرنسا تصدرت الحملة على سيده، ونعوت تقارن سركوزي ببيتان ولافال الذي تعاون مع النازية، وتشويه الكلام عن ضوابط للهجرة وكأنها حملة على المسلمين حتى أن مجموعة من أئمة الجوامع دعت لعدم التصويت لسركوزي. والنقابات العمالية، التي يفترض أنها مهنية ومحايدة وتمثل تيارات مختلفة، بادرت للموقف نفسه خلافا للأعراف النقابية حتى في فرنسا نفسها. ثم دخلوا زوجة سركوزي المسكينة في الموجة وهو أمر معيب. ولا أدري كيف يأخذ حيزا كبيرا في تقارير إيلاف التي تكتب دوما من موقع متحيز.
العنف كان في منتهى بروزه في المناظرة التلفزيونية بين المرشحيْن. فالمرشح الاشتراكي كان يقاطع خصمه باستمرار وهو متشنج، وغير قادر على تحمل كلام الخصم، والانتظار للرد عندما يأتي دوره للكلام، وكأنه كان يريد احتكار المناقشة والوقت. واستعمل تهما لا دليل عليها وأرقاما غير دقيقة. و سركوزي، من جانبه، اتهم خصمه بالكذب، وهو ما لا يجوز أن يجري على لسان رئيس مرشح، فقد كان ممكنا أن يقول مثلا quot; هذا غير صحيحquot; و quot; هذا غير دقيقquot;، أما أن تقذف بوصف الكاذب فهو ما لا يليق.
المناظرة برهنت على صواب طلب سركوزي سابقا بإجراء أكثر من مناظرة واحدة لان كثيرا من الأمور بقي خارج المناظرة، أو لم يسمح الوقت، وطريقة النقاش وجوه بإيفائه حقه من التوضيح. فقضايا الأمن والهجرة واليورو والسياسات الخارجية لم تأخذ حقها اللازم من التوضيح. والأرقام في المسائل الاقتصادية والاجتماعية كانت متعارضة مع رجحان دقة الأرقام التي طرحها سركوزي بحسب الخبراء لان هذا ميدانه، وله خبراته المتراكمة فيه، فرنسيا وأوروبيا. كما لم نعرف مواقف هولاند من سورية، ومن الأطلسي، ومن الإخوان المسلمين والولايات لمتحدة، وغيرها.
فرنسا ما بعد الانتخابات ستكون أمام مفترق طرق لو فاز الاشتراكيون، فإما تطبيق برنامج هولاند الاقتصادي كما هو، أي عدم التركيز على معالجة الديون والعجز والتوفير في الإنفاق العام، مع خلق آلاف مؤلفة جديدة من الوظائف، ومع تصعيد الضرائب في بلد هو والسويد في المقدمة من سلم الضرائب العالية؛ وإما أن تؤدي تحديات السلطة إلى مراجعة البرنامج المذكور وتعديله بهدوء لكيلا تنزلق فرنسا في طريق أسبانيا واليونان والبرتغال التي كان الاشتراكيون يحكمونها. كذلك بالنسبة للهجرة الشرعية والضوابط عليها بما يناسب العجز في ميزانية الضمان الاجتماعي وأزمة السكن وبطالة الفرنسيين، ومدى تحمل فرنسا لموجات جديدة من أبناء الهجرة، أوروبيين أو أفارقة أو مسلمين. فالمعارضة شيء، والحكم شيء آخر قد يكشف عن التعرجات والصعوبات والتعقيدات التي لا يراها المعارض، أو التي يراها ولكنه يصمت عنها ترضية للجميع. فالمعارض عادة يغازل كل الشرائح، ويمنّي الجميع بالخيرات، حتى إذا حكم، اصطدم بالواقع، فإما أن يواصل الغزل والترضية بإجراءاته، وإما أن يمتلك شجاعة المصارحة والشفافية وإرادة اتخاذ الإجراءات الواقعية. ولنأمل أن يكون هذا ما يحدث فيما لو فاز الاشتراكيون. أما لو حدثت مفاجأة عودة سركوزي، فهذا شي آخر. ومهما يكن، فإن الصواب هو ما بين البرنامجين والرؤيتين، فليس كل ما ينادي به سركوزي دقيقا وصحيحا، ولا كل برنامج هولاند غير واقعي. ولكن العواطف والخصومات الشخصية لا تسمح اليوم بالغربلة الموضوعية والتمعن والتدقيق. وخير دليل أن بايروالوسطي يصرح بدعم هولاند بحجة أن سركوزي يقترب من مواقع مارين لوبين في موضوع الهجرة، مع أن برنامجه الاقتصادي قريب من برنامج سركوزي، وهو ينتقد برنامج هولاند. وكان هو نفسه قد صوت عام 2007 ضد سركوزي، ولكن بحجج أخرى غير حجج اليوم. والمسألة شخصية.
مهما يكن، فإن ما يتمناه الأخيار في العالم هو أن تفلح فرنسا في حل معضلاتها الاقتصادية والاجتماعية والخروج من الأزمة، وأن تعالج مسائل الهجرة بواقعية وانفتاح معا. وفرنسا كانت دوما بلد الترحيب بأبناء الهجرة من المستعدين للاندماج والمساهمة في تنمية الثروة الوطنية والاقتصاد الفرنسيين. وكما كررت في مقالات سابقة، فإن على المسلمين وتنظيماتهم ونخبهم في فرنسا [والغرب] واجب العمل لاحترام قيم ومبادئ الجمهورية الفرنسية ووقف التصعيد في المطالب الفئوية، وهو التصعيد الذي يغذي حملة حزب اليمين الشعبوي ومشاعر القلق من المسلمين في الغرب. أما مواصلة الحملة على سركوزي، الذي كان له فضل قيام [المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية]، فلن يخدم العرب والمسلمين في فرنسا. الرجل قام في رئاسته بالجيد، وخصوصا وقف انحدار فرنسا نحو الحالة الأسبانية، كما اقترف أخطاء، وليس من الموضوعية التشهير به وبعائلته ونشر كل الأكاذيب التي حيكت وتحاك اليوم ضده خلال الحملة الانتخابية التي تنتهي.
ونقول: أيا كان الفائز فيجب أن نهنأه ونتمنى له النجاح في مهماته الصعبة وبالغة التعقيد في عالم مضطرب وأوروبا تحت وطأة الأزمات.