لا أدري من الذين أطلقوا تعبير أو وصف الانفجارات العربية الجارية بـquot;الربيع العربيquot;، مقارنة لها بربيع الدول الشرقية منذ انهيار جدار برلين. وربما كان التعبير غربيا، فراج عندنا وساهم بعض الشيء في خلط الأمور، وبث التفاؤل المفرط في غير محله. والحال أن الثورات الشرقية، التي كانت سلمية، عرفت قادة متنورين وديمقراطيين واعين، من أمثال فاليسا وهافل وقبلهما غورباتشيف؛ وكذلك التأثير المباشر للنماذج الغربية المجاورة في الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وما قدمه الغرب من عون فعال فيما بعد. وفضلا عن كل هذا، فإن شعوب تلك الدول كانت أكثر تقدما اجتماعيا وتعليميا وسياسيا من الشعوب العربية؛ ورغم كل ما مارسته الأنظمة الشمولية الشيوعية من قهر وفرض الرأي الواحد، فإن نخبا من المعارضة ظلت نشيطة، كما بقي المستوى العام للناس أعلى مما عندنا، سواء ما يخص المرأة أو لتقبل الأفكار الإصلاحية الجديدة، فضلا عن التطور الصناعي.
لقد كتبت في الشهور الأولى لانفجارتي تونس ومصر سلسلة مقالات في إيلاف وصحف أخرى تبدي شكوكا في أن تتحول تلك الانفجارات إلى ثورات تغيير ديمقراطي قريب نظرا لطبيعة تخلف المجتمعات العربية وسيادة الأمية واستفحال تأثير التضليل والدجل الذي تمارسه جحافل الإسلاميين، ولإصابة النخب السياسية بأعراض الإصرار على الخطأ والانفصام عن الواقع. وكذلك نظرا لأن بلداننا غير محاطة بدول ديمقراطية نموذجية تؤثر بإشعاعها على جوارها.
والواقع، أن المنطقة شهدت سلسلة ردات للوراء جراء نشاط وتأثير المتطرفين الإسلاميين من إخوان وغيرهم، وانتصار النظام الشمولي الناصري الذي فرض نظام الحزب الواحد والقائد الأوحد، وقام بمغامرات أدت للإخلال حتى بعدد من المنجزات الناصرية الهامة؛ ثم دزر البعثين السوري والعراقي، وجاءت الثورة الخمينية لتجيّش كل قوى التطرف والعنف والمغامرة في المنطقة.
لو يكن النظام الملكي في مصر نموذجيا وكانت له مثالب شتى وكبيرة، ولاسيما ما نسب لفاروق من فساد وفرضه للقرارات الساخنة. ومع ذلك، فإن العهد الملكي المصري، منذ قيامه، كان هو العهد الذي شهد أهم التطورات الحداثية والفكرية والفنية والثقافية والأدبية. بل، ورغم تدخل القصر في الانتخابات، فإن الحزب المعارض الأول، الوفد، نجح في الانتخابات قبيل الحركة الناصرية. وفي زمنه قامت حركة الأنصار ضد القوات البريطانية في القنال. وقد ثبت عدم صحة حكاية الأسلحة الفاسدة، مثلما ثبت في العراق بطلان قصة التاجر اليهودي عدس في البصرة، الذي أعدم عام 1948 بتهمة إرسال مواد وأسلحة لإسرائيل. ورغم وجود حفنة من كبار الرأسماليين، مصريين وغيرهم، لكنهم- وكما كتب الأستاذ تركي الحمد عام 2007 - كانوا أصحاب استثمارات ومشاريع وظفت شرائح واسعة من المجتمع. وبرغم الباشوات والإقطاعيات، وسوء أوضاع الفلاحين، كان هناك برلمان وحرية سياسية قادرة على نقد كل شيء وتقديم مشاريع قوانين للإصلاح لزراعي، التي كانت مقدمة للبرلمان قبيل حركة الضباط الأحرار، وكانت مشاريع متقدمة. أما النظام الناصري، فقد أجهز على البرلمانية والحريات العامة، وقام، في الوقت نفسه، بعدد من الإصلاحات الاجتماعية الهامة [مجانية التعليم والإصلاح الزراعي، والسد العالي]، ولكنها ظلت معرضة للخطر بسبب انتشار الفساد في مؤسسات الدولة، وسيادة البيروقراطية العسكرية، وجراء الانزلاق في عدد من المغامرات العسكرية التي جلبت الويلات لمصر والمنطقة. ولا ننسى في العراق دور النظام الناصري في الإجهاز على ثورة 14 تموز بالتعاون مع البعث وقوى متآمرة خارجية. ولذا استغرب من لا يزال يرى في الناصرية منقذا لمصر في محنتها الراهنة. وأظل أرى أنه كان بالإمكان تحقيق التطور الإيجابي والإصلاحات المتقدمة خطوة فخطوة بالطريق السلمي.
إن ما يحدث اليوم في مصر بفعل تحريض الإخوان وبقية الإسلاميين، وانجرار quot;ثوارquot; فقدوا البوصلة ووقعوا في فخ الإسلاميين عمليا، هو ضياع مكاسب الأيام الأولى للانتفاضة لصالح دعاة الدولة الدينية. والدولة الدينية لا تعني بالضرورة حكاما معممين كما في إيران، ولكنها تعني حكاما يعتبرون الشريعة هي الحل، وقيام الدولة الدينية هو الطريق. وإذا كان الشباب العاطفي قد اندفع للميدان بصخب بعد نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات، ثم بعد أحكام القضاء، فإنه يقع مع الأسف في فخ رهيب. وإذا لم تكن لهؤلاء الشباب بوصلة وبرنامج واضح، فإن الإخوان لديهم كل ذلك، فضلا عن المال المتدفق من قطر، وفضلا عن تخلف قطاعات واسعة من الناس. وليتذكر الشباب المصري و النخب اللبرالية والعلمانية جيدا ما قاله السيد مرسي أمام جامعة القاهرة، حيث قال نصا:quot; القرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والموت في سبيل الله غايتنا. قادرون على تطبيق أحكام الشريعة، ولن نرضى بديلا عن الشريعة.quot; هذه هي الدولة التي يسعون لها، وأما حرية العقيدة وحقوق المرأة والحداثة ومبدأ المواطنة، الذي يساوي بين القبطي والمسلم، فعلى كل ذلك السلام. والإخوان هم من صرحوا ذات يوم: حاكم مسلم من ماليزيا ولا حاكم مصري قبطي. ومما يزيد الطين بلة العودة لخطاب عن إسرائيل كخطب أحمدي نجاد برغم وعودهم الزئبقية للغرب، حتى أن كارتر، [مرشد أوباما]، راح يروج بقوله إن الإخوان لن يلغوا اتفاقية كمب ديفيد. ونقول، إذا كانت الاتفاقية تغمط حقوقا لمصر، فإن الظرف غير مناسب للتعديل والتصحيح، والطريق السلمي التفاوضي وحده هو الأسلوب لذلك. ويحدثنا الكاتب المصري الأستاذ علي سالم عن تسرب أسلحة متقدمة جدا إلى مصر هذه الأيام، من أمثال الصواريخ عابرة المدن وقذائف مدفعية مضادة للطائرات. وهي لم تهرّب لتخزينها، بل لابد لتسليمها لطرف آخر لتستخدم في سيناء ضد إسرائيل، والنتيجة جر مصر للحرب، في وقت تحتاج فيه مصر للاستقرار والأمان والسياحة وتوفير فرص العمل ونهضة بالاقتصاد. كذلك فغن أية مغامرة كهذه سوف تصرف النظر عما يجري في سوريا وعن الخطر النووي الإيراني. كما يتزيد من عنجهية اليمين الإسرائلي.
إن هوس الحظر السياسي لا يقود لغير الكوارث، وهو ما تجنبته الدول الشرقية وأسبانيا في الصراع ضد نظام فرانكو وتشيلي في الصراع ضد بينوشه. وحتى ألمانيا ما بعد النازية لم تشهد غير محاكمة غير عدد من الرؤوس الكبيرة التي كانت هي المسؤولة الأولى والتي ثبتت جرائمها الخطيرة.
إن هوس quot;الفلولquot;، الذي أصاب البصائر والعقول في مصر، يقود لا محالة، ومع كل المرارة، إلى شعارquot;فليأت الشيطان نفسه لحكم مصر ولكن لا quot;فلوليquot;، وإن كان نزيها وصاحب تجربة، وعلمانيا. وكما كتبت في مكان آخر، فإنها لسياسة هدم الدولة نفسها لا مجرد إسقاط نظام، وكأنما التجارب القاسية التي مرت على المنطقة، وخصوصا تجارب إيران والعراق، مرت بلا أي تمعن وأي اعتبار. وأقول، يا ليت هذه التوقعات الكئيبة لن تحدث. يا ليت، ولعل، وعسى!