صديق جديد في الشيخوخة..

كان ذلك منذ حوالي السبعة شهور، عندما أردت الخروج صباحا من الشقة. ما إن فتحت الباب حتى اندفع مخلوق صغير بلا استئذان، أبيض اللون وأسمره. كان قطا جميلا، راح يدحرج نفسه على السجادة وهو ينظر إلي، وفي عينيه نظرات تودد ورجاء. عرفت أنه جائع، فقدمت له ما تيسر من لحم، وبدلا من الخروج صعد إلى الكنبة وراح يهرهر. والهرهرة عند القطط دليل الارتياح التام. ويقال إن الهر حين يهرهر، فإنه يستسلم جسدا وروحا.

منذ صباي وأنا عاشق القطط، كبقية أفراد العائلة. وقد ودعت عام 1997 هري الحبيب ريمي بعد صداقة أحد عشر عاما، وكتبت فيه الكثير، شعرا ونثرا، ولا أزال أبكيه. وبرغم شيخوختي وعطب الركبتين، فإنني أحاول زيارة قبره في ضاحية باريس مرة كل شهر. وصور ريمي تغطي الجدران وأدراج المكتبة. ومنذ ذلك الفراق وأنا حريص على ألا أصطفي غيره. فحبي له كان كبيرا ومن طبيعة خارقة. ولكنني، في الوقت نفسه، رحت اعتني، وحسب الظرف، بكل قط هجره أصحابه ويكون جواري أو على مقربة. ولذا لم أرد تشجيع القط الضيف على البقاء في الشقة، فلا شيخوختي تؤهلني للعناية اللازمة به، ولا ذكرى ريمي تسمح لي بذلك. بعد ساعتين، تعمدت أن أضع له طعاما خارج الشقة، وخرجنا معا بعد غلق الباب. فعرف أن الزيارة تقف هنا. وقد تكررت الزيارات يوما بعد يوم، وأنا أحسبه يعود لأحد سكان العمارات القريبة. وبعد أسبوعين أعلمني الحارس بأن القط من القطط التي هجرها أصحابها، ولا يعود لأحد. ولما كان شعر ظهره مليئا بالتجاعيد تصورت أنه مبتلى بسرطان الجلد الذي توفي به ريمي رغم أربع عمليات. وقد أعلمتني الطبيبة البيطرية بأن تجاعيده من الوسخ، وأن القط هر في شبابه ويحب العراك ولكن عينه اليمنى عمياء. صدمني خبر العين، وتبدل موقفي منه وعواطفي باتجاه المزيد من العناية والرعاية والعطف. وبعد أن عقموا فحولته، ونظفوه، ونقشوا في أذنيه اسمه واسمي وعنواني للتعرف، راحت ساعات زيارته تطول. وصرنا صديقين دون أن ينغص الواحد على الآخر، فقد كان، ولا يزال، يقضي أغلب ساعات النهار معي، آكلا ونائما ولاعبا، ثم يطلب فتح الباب له قرب المساء. فالقطط التي تركها أصحابها لسنوات خارج الشقق يتعذر عليها أن تفرط بحريتها ولاسيما ليلا، فالهررة حيوانات ليلية إن صح التعبير. صديقي الجديد سميته [دو دو]، والجيران يعرفونه وحين يقف أمام باب العمارة صباحا، يفتحون له الباب ليصعد عندي. ولا أكتم أنه، مع ارتياحي التام لوجوده والتصاقه بي نائما ومداعباته، فإنني حزين جدا لمأساة عينه اليمنى، خاصة لأنه ليس مستقرا في مكان وبين عائلة ترعاه. ولو حدث وعطبت عينه الأخرى أيضا، فإن مصيره سيكون مأساويا. كما أنني حزين بسبب الشيخوخة. ولو حدث وغادرت الحياة، فسوف يصاب بصدمة أخرى بعد صدمة هجره من قبل. ولكن هذه هي الحياة، وخلاصتها عندي أن الحيوان أرفع قدرا من الإنسان وأكثر نبلا ووفاء. وكان صديقي الراحل، الصحفي المغربي الباهي محمد، يقول: quot;إذا افترضنا أن الإنسان أنبل مخلوقات الله من حيث العقل، فإنه بنفس الوقت أسوأ هذه المخلوقات من حيث التصرف والسلوك.quot;


من أوراقي القديمة...
يحلو لي من وقت لآخر قراءة مراسلات متبادلةمع العائلة والأقارب والأصدقاء، والكثيرون منهم راحلون. وأمس أعدت قراءة رسالة ممن كانت طفلة يوما ما حين تعرفت على أبويها السوريين في باريس. كانوا يزورنني كل يوم أحد، ونذهب معا للحدائق أو بعض المطاعم. واعتدت أن أقدم للصغيرة كل مرة هدية تفرح بها. وصورنا معا كثيرة وهي من الصور المعلقة في الشقة، مع صور العائلة والعديد من الأصدقاء والشخصيات العراقية التي تعرفت عليها في مراحل العمر.
كان ذلك في الثمانينات. وحين غادروا باريس لدمشق أصابني حزن شديد. إنها [لين] ابنة المرحوم الدكتور توفيق البطل، الذي غادر الحياة قبل أقل من عام وكان طبيبا لامعا وسامي الخلق. كتبت لين في أواخر التسعينات، وقد صارت شابة، رسالة على أثر وفاة ريمي، وما خلفه في حياتي من فراغ. تقول الرسالة: quot;عمي الحبيب.. أريد أن أطلب منك طلبا، ولكن أعرف أنه صعب عليك أن تنفذه في هذه الفترة. أرجوك عمو عزيز أن تكون قويا ولا تفقد الأمل . فأنت مثلي الأعلى ولا أريدك أن تكون حزينا ومتشائما. وكم أتمنى أن أكون قريبة منك وأسليك وأبقى معك لكيلا تشعر بالوحدة. ولكن الظروف السيئة دائما تقف في وجه رغباتناquot;. وقد حدث وجاءتني لباريس بعد عامين، وتبادلنا الذكريات، ثم سمعت بزواجها وولادة توأم لها. هذه السطور من لين تؤثر في اليوم كثيرا بسبب الأوضاع المأساوية في سورية، والمأزق الذي أدخل الشعبَ والبلادَ والمنطقةَ فيها بشار الأسد وعصبته. وأفكر في أحوال لين وعائلتها وبقية المواطنين السوريين- الضحايا. أوليس على حق من يرى أن شعرة من حيوان أشرف وأنبل من كثيرين من الناس، وخصوصا من الحكام المستبدين وعشاق الدماء؟ وكتب جورج برنار شو: quot;الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يثير رعبي... بينما لا يشكل الأسد الشبعان أي أذى؛ فليس له أي مذاهب أو طوائف أو أحزاب.quot;

أنا هنا!

رأيت في الغابة صبية كالزنبقة.. تركض بين الأشجار وراء فراشة مرحة. كان الحطاب يستعد لاغتيال شجرة ينشد فوقها عصفور قصيدة رثاء لحبيبته.
جاء رجل عجوز متحاملا على قدميه من تعب الزمان، ومن ثقل الأمراض والأحزان. فجأة تستوي القدمان بقوة الشباب، وتنطلقان نحو مصدر صوت ينادي بإلفة وحنان:
quot;أنا هنا يا صديق. أنا جارتك، الشجرة التي لم تزعزعها العواصف والأنواء. وفوق أغصاني تلك الحمامة التي أنقذتَها من الموت، فراحت تصلي لجناحيك المهيضين.quot; وتذكر الشيخ نخيل العراق المحترقة، وجفاف دجلة، وخنق أصوات المغنين لتعلو مطارق اللطم واللطامين. وسأل شاعر صديق: أين العراق الذي عرفه ذات يوم، وكان الجواب:quot; تلك أيام فاتت. وهل ينفع الندم!! هل يجدي البكاءquot;!!