مع انطلاق الانتفاضتين التونسية والمصرية وما تلاهما، ازداد اختلاط المفاهيم والمصطلحات وتداخلها لحد التشويش والتشويه، لاسيما ما يخص معنى الثورة، ومعنى الديمقراطية والدولة المدنية. وأما مفهوم العلمانية، فلم يتزحزح التشويه القديم له وكأن العلمانية تعني عداء للدين وقضاء على الحرية الدينية. ولاحظنا في الانتفاضة المصرية حرص قوي وشخصيات ومثقفين علمانيين على عدم طرح العلمانية في الساحة بحجة عدم إزعاج الإخوان المسلمين. وقد اكتفوا بطرح شعار دولة مدنية، سرعان ما مسخه الإخوان بشعار quot; دولة مدنية ذات مرجعية إسلاميةquot;- وهذه صيغة أخرى لشعار quot;الإسلام هو الحلquot;. وقد شرحه بهذا المضمون المرشح الإخواني مرسي في الحملة الانتخابية أمام طلبة الجامعة كما سنرى. وما ساعد على الخلط والالتباسات هو الهوس الغربي بالانتخابات أينما كانت، ومهما كانت منطلقاتها، وأفكار وبرامج مرشحيها وثقافة الناخبين ومنظومتهم الفكرية والاجتماعية. فمجرد حرية الصناديق وحدها كافية لتزكية الانتخابات واعتبارها هي الديمقراطية، وإن رافقت الحملات الانتخابية فتاوى دينية وتوزيع الرز والسكر والزيت، وما شابه من أساليب شهدناها صارخة في الانتخابات المصرية الأخيرة.
ومن الظواهر الأخرى في هذه الانتفاضات تحريم النقد والإصرار على اعتبار كل انتفاضة ضد الحاكم هي الثورة، وكل quot; ثائرquot; لابد ويجسد الشرعية والحكمة السياسية وبعد النظر. إن تضحيات شباب الانتفاضات كانت مجيدة ورائعة، وإرادة الحرية مباركة. ولكن هذا لا يغني عن البوصلة السياسية والبرنامج المدروس لما بعد سقوط الحاكم. في مصر كان الشعار المركزي في البداية quot;ارحلquot;، وما أن اعتزل مبارك، حتى تتالت شعارات الترحيل: ضد عمر سليمان وضد الحكومات المتتالية. ولم يسلم من غضب quot; quot;الثوارquot; حتى رئيس الوزراء الذي كلف نفسه بالذهاب لميدان التحرير والتصريح ndash; وخلافا لقواعد العمل المؤسساتي- بأنه يستمد الشرعية من الشارع. وسرعان ما صار الهدف الجديد محاكمة مبارك وولديه والعديد من رجالات العهد السابق. ورأينا كيف تحولت المحاكمات لنوع من السيرك الشعبي وأبطاله محامون، وكيف كان الشارع يحمل لافتات عليها رسوم المشانق، وكأنما الشارع هو من يحاكم و وليس القانون وعدالة القانون. والواقع، وكما كتب كاتب عربي، فإن عدالة الثورة لا تعني بالضرورة عدالة الثوار. وقد رأينا أبشع مثال لذلك في موقعة مقتل القذافي والتمثيل بجثته.
لقد ضحى شباب الميدان في القاهرة، وأبدى آيات البطولة والعزيمة. ولكن قصر النظر والانجرار وراء شهوة الثأر والاجتثاث والعزل السياسي والوظيفي، ساعد الإخوان وبقية الإسلاميين على سرقة الانتفاضة والصعود على أكتاف التضحيات الشبابية. ويجب القول، بكل صراحة وبلا مواربة، وهو ما كررناه مرارا، بأنه لا مبارك ولا بن علي كانا طاغيتين دمويين، ولا كل من اشتغل في الوظائف والحزب الحاكم أو الجيش في عهدهما كان فاسدا ومعاديا لأماني الشعب ومصالحه. لم يكن لا مبارك ولا بن علي دكتاتورا دمويا مستعدا لقتل مئات الآلاف كما يفعل بشار الأسد، وكصدام حسين والقذافي والبشير وخامنئي واحمدي نجاد. ومشكلة مبارك الكبرى كانت الثوريث وفساد بعض أفراد العائلة. والحزب الوطني الحاكم المنحل لم يكن كحزب البعث، سوريّا أو عراقيا؛ ومع ذلك فإن العزل السياسي وفق قانون الاجتثاث في العراق كان لا يشمل رسميا غير واحد بالمائة من أعضاء حزب البعث الذي كان عدده مليونين، أي 20000 فقط. ولكن التطبيق خلط الأمور وفقا لمعايير الطائفية والمصالح السياسية.
إن إجراءات المجلس العسكري بإطلاق الحرية للسلفيين وحتى لأفراد مدانين من الجماعة الإسلامية الإرهابية، بل ولأمثال عبود الزمر، وإن طغيان الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية، وتراجع الإخوان عن كل وعودهم السابقة عن عدم الرغبة في السيطرة على البرلمان أو الترشيح للرئاسة، وإن سائر الظواهر والتصريحات والممارسات المقلقة باتجاه الاعتداء على حرية النشر وحقوق المرأة والأقباط وإن سجن عادل إمام؛ كل ذلك لم يثر الغضب الذي يستحقه لدى quot; الثوريينquot;. أما صعود أحمد شفيق العلماني، والرجل النزيه، في المرحلة الأولى من الانتخابات، فهو الذي أثار غضبهم وعزمهم على مليونية جديدة ضده. ويظهر أن شبابنا اليساري المصري لم يدرك بعد أن ما تحتاجه مصر اليوم هو الاستقرار والأمن ومعالجة المشاكل الاقتصادية ومشكلة العمالة والسياحة. والسؤال اليوم الذي يجب طرحه، كما ورد في مقال بالشرق الأوسط، هوquot; هل نحن مع دولة دينية أم مع دولة مدنية ديمقراطية؟quot;. وأما وعود الإخوان، التي يردها الشباب الثوروي مكتوبة هذه المرة، فقد ثبت مجددا ومجددا أنها تطلق بخفة وفق الظرف، ثم quot;تلحسquot; في ثوان.