هكذا انتهت الانتخابات الرئاسية الفرنسية بفوز المرشح الاشتراكي، وهو ما كانت تؤكده مسبقا استفتاءات الرأي المتتالية، فتهنئة للرئيس الجديد، ونتمنى النجاح له ولفرنسا في معالجة المشاكل والتحديات الكبرى أمامها، وهولاند من جانبه حيا سركوزي. وبرغم حدة الخطاب في مجري الحملة الانتخابية، واستخدام بعض الاتهامات والأوصاف غير المتزنة، فإن النتيجة انتصار للديمقراطية الفرنسية، ولتقاليدها العريقة. فالرئيس الخاسر يهنئ الفائز، ويطلب من مؤيديه احترام إرادة الناخبين، والتفكير أولا في مصلحة فرنسا، وسيظهران معا في احتفالات 8 مايو. وباستثناء دموع بعض المؤيدات والمؤيدين ، وملامح الحزن والمرارة، فإننا لم نجد لا محاولة للطعن بالنتائج، ولا صدامات شوارع، ولا عقلية معسكرين عدوين متناحرين. هذا وأمامنا قريبا الانتخابات النيابية التي يجري منذ الآن التحشيد لها.
سركوزي دفع ثمن بعض الإصلاحات الجريئة، ولكن غير الشعبية. كما دفع ثمن بعض تصرفاته وتسرعه. ودفع أيضا ثمن بعض الاندفاع نحو كسب ناخبي حزب مارين لوبين في الأيام الأخيرة. ودفع أيضا ضد الحملات الواسعة ضده منذ أول يوم من ولايته.
إن القول بأنه كان أسوأ رئيس فرنسي، كما يكتب بعض المعلقين العرب، إنما هو إجحاف وظلم وتحيز أعمى. ويكفيه أنه هو الذي أنقذ فرنسا من الوقوع في حالة أزمة شاملة كما في إسبانيا والبرتغال، ناهيكم عن اليونان. وبرنامجه الاقتصادي هو الأكثر واقعية وانسجاما مع متطلبات الوضع المالي والاقتصادي في فرنسا وأوروبا من برنامج الرئيس المنتخب- كما كتبت في مقالاتي السابقة. وفرنسا في عهده وقفت في طليعة المتصدين لدكتاتوريتي الأسد والقذافي. وهنا تثار دعوة كل من هذين لفرنسا، وكان ذلك باتفاق مع الولايات المتحدة وبقية الغرب. فالقذافي كان قد سلم أسحلته المحظورة ووقع على اتفاقيات مع أوروبا لمنع موجات الهجرة من وعبر ليبيا ولم يعد خطرا على الأمن العالمي. وتدخلت فرنسا عندما كانت بنغازي أمام خطر التدمير العام. وكذلك دعوة بشار الأسد جاءت وسط انفتاح الغرب على سورية، بأمل جرها من الحلف مع إيران، وحلحلة تدخلها في لبنان، ولكن الخطأ كان في توقيت الدعوة وكيفيتها، أي وضع الأسد في منصة شرف احتفالات اليوم الوطني الفرنسي، وكان هذا نابيا فعلا. كما ثبت أن كل أمل بفك التحالف السوري- الإيراني مجرد وهم زرعته إدارة اوباما وتلقفته أوروبا الغربية. أما إثارة موضوع ضبط الهجرة، فمشكلة الهجرة معضلة ساخنة، أوروبيا وأميركيا، وهي تثار في الدول الأوروبية الأخرى، وتُتخذ الضوابط، وخصوصا مع زيادة البطالة والأزمات. ولكن ما لم يعترف به سركوزي انه خلال ولايته الخمسية لم يعالج موضوع الهجرة بنفس الضوابط التي راح يدعو إليها في العام الأخير من ولايته. وإذا كان معدل القادمين الجدد لفرنسا زمن الاشتراكيين 280000 شخص كل سنة، ففي عهد سركوزي كان المعدل 200000 - أي دخل مليون مهاجر جديد خلال سنواته الخمس. ومن هنا فاتهامه بمعاداة المهاجرين مجرد افتراء. واتهامه بمعادة المسلمين افتراء آخر، فهو من أسس المجلس الفرنسي للديانة الفرنسية حين كان وزيرا للداخلية. وأما انتقاد المطالبة بفرض فصل النساء عن الرجال في مسابح الدولة، وحظر النقاب، وإثارة موضوع الصلاة في الشوارع مع وجود حوالي 2000 مسجد بفرنسا، فهذا ما يفكر فيه معظم الفرنسيين، وهو أيضا ما يستغله اليمين الشعبوي باستمرار. وكما ورد في مقالاتي السابقة، فإن ما يحدث هو انعطاف الحكم والسياسة يسارا وليس هو بانعطاف فرنسا كلها يسارا لأن عدد مؤيدي اليمين هو الأكبر، ولكنهم مختلفون وأحزابهم وشخصياتهم في تنافس. وهذا ما انعكس في التصويت الانتخابي. وإذا كان العرب والمسلمون لا يدركون أن تصعيد المطالب الفئوية باسم الدين له ردود فعل عكسية، وهو الذي يغذي اليمين الشعبوي، بل وحتى تيارات التطرف والعنصرية والعنف اليمينيين، كحالة بريفيك النرويجي، وإذا كان بعض أئمة جوامعهم والمعلقين والكتاب العرب يواصلون تبرير سلوك بعض المسلمين ومطالبهم الفئوية المنافية لقيم الجمهورية الفرنسية ونمط الحياة الفرنسية، فإنهم إنما يخدمون بذلك كل تيارات التطرف والعنصرية في فرنسا والغرب. وعجبي ممن يعيشون في فرنسا ويتمتعون ببركات خدماتها ومعوناتها الاجتماعية والصحية، ثم يطيلون اللسان، ويشتمون ويتهمون فرنسا بالعنصرية. والذين يشتمون سركوزي اليوم عليهم أن يحترموا إرادة الملايين التي صوتت له عن قناعة.
نحن لسنا في دولة إسلامية، ولسنا في بلد احتله المسلمون، وعلينا احترام قوانين البلد ومبادئ جمهوريته ولاسيما العلمانية. وإذا كان الفرنسيون عنصريين ويكرهون المسلمين، فلماذا لا نترك البلد ويرجع كل من حيث أتي!! ومن أخطاء سركوزي أنه لم يحسن مناقشة برنامج الرئيس الجديد حول إعطاء حق الانتخابات البلدية والمحلية للأجانب. وهو حق أراه غير مبرر، فالحق في الانتخابات- بكل أشكالها- يجب أن ينحصر بالفرنسيين كمواطنين. فما المبرر لمنحه للصيني والعراقي والباكستاني والمالي والسنغالي وأمثالهم إن لم يكونوا حائزين على الجنسية الفرنسية؟؟ أما حديثه عن خطر الفئوية، فصحيح، ولكنه لم يوضح. ومن بين كل الجاليات الأجنبية في فرنسا والغرب، فإن الجاليات المسلمة هي وحدها التي تطرح باستمرار مطالب فئوية باسم الدين، وكأنها جزء من مبدأ الحرية الدينية. ومرة أخرى نعود للمؤلف الأميركي كالدويل في كتابه الصادر عام 2009 عن مخاطر التصعيد المستمر لمطالب المسلمين في فرنسا والغرب. وما أخشاه حقا أن يأتي وقت ينتشر فيه بين الأوروبيين قلق وهاجس عامان، وعلى نطاق واسع، من المسلمين، ونشوء مناخ سلبي يمكن أن يفجر كل أنواع التطرف والعنف. وهذا ما لا يعالج بفتاوى ومداخلات المتطرفين من علماء الدين المسلمين، ولا بدعايات ومحاضرات أمثال من لا يزال يروّج في الغرب لرسالة جده: quot; الإسلام هو الحلquot;!
الانتخابات الفرنسية تجري حول برامج تخص البلاد والشعب وحول أصحابها، ولا تتدخل الكنيسة في الحملة، ولا نسمع عن عمليات رشاوى وتزييف وترهيب وترغيب، كما يجري في الدول العربية والإسلامية وبعض الدول الأفريقية. وفي الانتخابات الأخيرة لم يطعن سركوزي بالنتائج أو يطلب إعادة جرد الأوراق يدويا كما فعل أخونا المالكي في العراق، وقبل سركوزي بالنتيجة مع أن الفارق لم يكن كبيرا [ 18 مليونا لهولاند وحوالي 17 مليونا تقريبا لسركوزي].
نعم في فرنسا والاتحاد الأوروبي مشاكل كبرى، ولاسيما البطالة والعجز والديون السيادية والهجرة المنفلتة، ولكن المؤسسات الديمقراطية هي ضمان السير نحو الحلول، وقد يضطر الرئيس الاشتراكي الفرنسي للتخلي عن بعض بنود برنامجه لو اصطدم بالواقع.
الديمقراطية لا تعني صناديق الاقتراع وحسب، بل هي مجموعة مبادئ وقيم ومؤسسات، والانتخابات الغربية تجري على أساس برامج مدنية تهم الجميع لا بمعايير قبلية أو فئوية أو عنصرية أو دينية أو طائفية، كما في معظم بلاد العرب. وماذا تفيد الانتخابات الحرة لو كانت النتيجة صعود أعداء الديمقراطية ودعاة تطويل اللحى، أو الطائفيين المناصرين لولاية الفقيه! وماذا تفيد لو كانت النتائج إمعانا في توتير الأجواء وزيادة الخصومات؟! أو إذا لم تكن النتائج تؤدي لتحسين أوضاع الناس وتقدم الاقتصاد وتوفير الأعمال وتطوير التعليم؟!وما معنى الانتخابات quot; الحرةquot; لو اعتبر الفائزون أنفسهم أصحاب حق في التفرد والاحتكار مع اجتثاث الآخرين؟! وهذه حالة مصر بعد العراق!
أخيرا، أقتبس من مقال ممتاز للأستاذ غسان شربل في quot; الحياةquot;:
quot; نراقب انتخاباتهم ونشعر بالحسد. بيننا وبينهم هو كبيرة. ليست لدينا مؤسسات حقيقية، والرأي العام يهتاج بدل أن يتبصر ويراقب ويحاسب. مدارسنا متخلفة وجامعاتنا تنجب رجالا متوترين لا يسلمون بضرورة احترام الآخر. أفكر في البلدان التي ضربها الربيع. لا يكفي أن يذهب المستبد، إننا نحتاج إلى ثورة ثقافية وفكرية وإلى تعليم عصري، وإلى مؤسسات يمكن من خلالها البحث عن الاستقرار والازدهار. إننا نعيش في مجتمعات بلا صمامات أمان.quot;
- آخر تحديث :
التعليقات