تستمر ردود الفعل على قرار اليونسكو بقبول عضوية الدولة الفلسطينية، ما بين ترحيب وحماس فلسطينيين وعربيين صاخبين وبين رعونة ردود الفعل الإسرائيلية.
كما كتبنا مرارا، فإن الموضوع الفلسطيني تحول، منذ عقود كثيرة، لبازار المزايدات والمتاجرة بعد أن أزمن تعريبها، ثم أسلمتها. وصار مجرد إقحام القضية واسم إسرائيل في أية قضية أو حالة عربية، ولو مجرد إقحام، يعتم على كل القضايا الأخرى، بما فيها قضايا التنمية وحقوق الإنسان والديمقراطية والحريات الدينية. وعندما بادر الفلسطينيون لوحدهم للتفاوض مع إسحاق رابين، تم التوصل لاتفاقية أوسلو التي أعادت الراحل عرفات من المهجر لأرض فلسطينية، وأعطت القضية بعدا شرعيا دوليا، وفتحت الأبواب الدولية أمام القيادة الفلسطينية. صحيح أن الاتفاقية كانت خطوة جزئية، ولكنها كانت هامة، وسبق أن استشهدنا بموقف الشاعر الفقيد محمود درويش، الذي قال عن الاتفاقية: quot; إنها لا ترضيني ولكنني أقبلهاquot;، قاصدا موازين القوى، وقاعدة أن ما لا يدرك كله لا يرفض ما يتيسر منه كخطوة أولى.
في الحالة اليونسكوية، كان من الآراء الفريدة في تقييمها مقالة الأستاذ عبد الرحمن الراشد، الذي عرفنا فيه كاتبا متعمقا وعقلانيا وجريئا. ففي مقال الراشد بالشرق الأوسط ليوم 7 الجاري، تذكير بطبيعة مهمات اليونسكو ورسالتها وهي ثقافية وتربوية وعلمية، وهي بقدر ما تقدم خدماتها في هذه المجالات، تكون قد أدت رسالتها. وقد قرأت بشيء من الامتعاض وكثير من الاستغراب مقالة في quot; الحياةquot; تقول إن اليونسكو كانت لحد قرار الدولة الفلسطينية تسير وفق عدالة القوة فصارت، بعد القرار، تسير وفق قوة العدالة!!! وهذا قول لا يستقيم مع منجزات وخدمات اليونسكو على مدى العقود ومنذ قيامها؛ فالحكم على اليونسكو يكون بما قدمته من خدمات لتشجيع حرية الفكر والتعبير، وتشجيع الإبداع، ونشر الثقافات، والحوار بينها، وحوار الأديان، وترجمة الروائع العالمية، ومكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة و ضد حرية المعتقد، ومكافحة الأمية، وصيانة الممتلكات الثقافية العالمية، ونقل التكنولوجيا، ألخ.، ألخ.. ومن يتابع عمل اليونسكو، منذ نشأتها، يجد أنها أنجزت الكثير في هذه المجالات كلها. وبالنسبة للقضية الفلسطينية نفسها، فإن المنظمة أعارت أهمية خاصة لموضوع أحوال الثقافة والتعليم في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة ومراقبة برامجها والتعاون في ذلك مع وكالة اللاجئين الدولية، وخصصت نشاطا كبيرا خاصا لفلسطين. وكان وفد المراقب الفلسطيني يتمتع بكل حرية النشاط لخدمة قضية شعبه في مجالات تخصص اليونسكو، ويجتمع مع السفراء العرب على قدم المساواة، ويقيم علاقات مع بقية السفراء.
المشكلة هي أن اليونسكو ليست منظمة دولية سياسية، ولا ينبغي زجها في قضايا سياسية بحتة وإلا لخرجت عن مهماتها، وذلك مهما كانت الدوافع والأسباب نبيلة وعادلة. والقاعدة أن يكون قبول عضوية دولة ما في الأمم المتحدة مقدمة لعضويتها في الوكالات المتخصصة.
إن المنظمة الدولية الحكومية الأم، أي الجمعية العمومية ومجلس الأمن، هي المنظمة السياسية، وبقية المنظمات التابعة لها هي وكالات مختصة كل في مجالات تخصصها.
الأستاذ الراشد وصف قرار مؤتمر اليونسكو العام عن الدولة الفلسطينية بالحدث quot; الرمزي السعيدquot;، ووصف نشاط الفلسطينيين لتحقيق ذلك ب quot; الاستعراض الإعلامي للفلسطينيينquot; الذي quot;لن يرد للفلسطينيين شبرا واحدا من أراضيهم التي تحتلها إسرائيل.quot;
ربما كان لقرار مماثل في الأمم المتحدة أهمية أكبر، ولو أنه هو الآخر لن يرد لنا شبرا واحدا من الأرض التي تحتلها إسرائيل.
لقد تابعت عملنا الفلسطيني والعربي في اليونسكو منذ السبعينيات، وثمة دروس بليغة من تلك المرحلة ومنها التالي:
في المؤتمر العام لسنة 1974، تصرفنا بحماس مبالغ فيه باسم القضية الفلسطينية لاستحصال قرارات لم تكن لها علاقة مباشرة بالقضية، ولكنها كانت تخص الغربيين حصرا وعلاقتهم مع إسرائيل في اليونسكو. والحديث هو عن طلب إسرائيلي للانضمام للمجموعة الانتخابية الغربية [ المجموعة الأولى في اليونسكو حيث لم تكن عضوا في أية مجموعة انتخابية]. والمجموعات الانتخابية هي خمس، إحداها مشتركة للعرب والأفارقة. إن من حق كل دولة عضو في اليونسكو أن تنتمي للمجموعة الانتخابية التي تنتمي إلها قاريا أو إقليميا، وبما أنه لم يكن ممكنا دخول إسرائيل لمنطقة آسيا أو المنطقة العربية، فقد طلبت انضمامها للمجموعة الغربية وباتفاق معها. غير أننا أصررنا على مقاومة الطلب بحجة عزل إسرائيل، وأصررنا على التصويت، فحصلنا على قرار بالرفض بغالبية أصوات قليلة، حيث كان ظروف الحرب الباردة وما كان يعرف بquot; الأكثرية الميكانيكيةquot; ضد الغرب. والنتيجة؟ خرجت جميع الوفود الغربية من القاعة احتجاجا، وتعرضت المنظمة إلى هزات عنيفة لاحقا. وفي المؤتمر العام التالي لعام1976 في نيروبي، تمسكنا بمواقفنا المتشنجة مع أن الوفد الفلسطيني جاء هذه المرة بتفهم للواقع وبمرونة، وكان يقول للوزراء العرب إن هذه القضية لا تعني الفلسطينيين، ولكنننا اتهمنا الوفد الفلسطيني نفسه بالتهاون في مصلحة شعبه، وبعض الوزراء العرب أرسلوا شكاوى ضده لياسر عرفات وقدومي!!! النتيجة هي فشل الموقف العربي في أكثر من معركة. لقد تحركنا بدافع سياسي بحت في قضية إدارية وقانونية لا تخص العرب وفلسطين، ففشلنا ووترنا العلاقات مع المدير العام السنغالي المسلم، احمد مختار أمبو، [المحب للقضية والعالم الثالث]، ومع وفود الدول الغربية في المنظمة. واليوم أيضا قمنا بخطوة كان يجب تفاديها بانتظار نتيجة بحث الطلب الفلسطيني في المنظمة السياسية ذات الاختصاص، إذ يكون نابيا أن تكون فلسطين دولة في منظمة فرعية قبل أن تكون أولا عضوا في المنظمة الأم، وهي على ما يبدو لن يكون بنفس السهولة النسبية.
إن هدف الدولة الفلسطينية أكبر مئات المرات من أي قرار بالاعتراف بدولة لا وجود لها على الأرض- هذا دع عنك العجز المالي الضخم في اليونسكو الذي سينجم عن الموقف الأميركي، والذي أدى فورا إلى إعلان تجميد أنشطنها المقررة لهذا العام بانتظار البحث عن موارد جديدة.
يبدو أن القيادة الفلسطينية مصرة على دفع طلبها في الأمم المتحدة [ أي كدولة كاملة العضوية وليس كدولة مراقبة] مع أن المعلومات التي تنشر يوميا تشير إلى تراجع حظ قبول الطلب في مجلس الأمن، وإذا كانت فرنسا قد صوتت بنعم في اليونسكو، فواضح أنها سوف تمتنع في مجلس الأمن.
في رأيي أن مسألة تصنيف الحلفاء والأعداء على أساس التصويت للطلب الفلسطيني هو مغامرة سياسية كبرى؛ فهناك دول تبطش بشعوبها وتساند دولا مستبدة أخرى، ولكنها صوت بنعم، سواء للمزايدة و للتقرب من العرب، أو نكاية بأميركا. وهناك من يتدخل في شؤون العرب ويساند بطش النظام السوري، فهل صار حليفا للعرب والقضية الفلسطينية لمجرد أن قال نعم في اليونسكو!!!!