برهنت كل التجارب السياسية، المحلية والإقليمية، والأوسع منها، على أن المبدأ الأول لبناء دولة العدل والمساواة والتقدم هو مبدأ المواطنة، وهو المبدأ الذي لا تعترف به الأحزاب الدينية كلها،. والانحراف عن هذا المبدأ الأساسي لا يؤدي لغير مطبات، ومخاطر، ونكبات،قد يكون منها تفتيت البلاد وجعلها لقمة سائغة للغير.
الحقيقة الأولى، التي أرى أننا مدعوون للاعتراف بها عن تجربتنا منذ سقوط نظام البعث الصدامي، هي أن السلطة الجديدة، ومع تبدل الحكومات، بعيدة كل البعد عن هذا المبدأ الجوهري، الذي لا يجد مداه التطبيقي الكامل إلا في نظام ديمقراطي علماني، لا في نظام أحكام الشريعة وبقيادة الإسلاميين. وقد كنا نتمنى لو اتعظت الانتفاضات العربية بتجربتنا المرة والمؤلمة جدا، ولكن يبدو أنه كتب على العرب عدم التعلم لا من تجاربهم ولا من التجارب القريبة!!
لقد سبق الحرب صدور بيان في لندن باسم quot;شيعة العراقquot; يتحدث عن مظلومية الشيعة، ويؤكد على تفوقهم العددي. ومع ذكر البيان لكلمة وهدف الديمقراطية، فإنه كان يفوح برائحة مذهبية ضيقة، وجدت تعبيرها الأوضح في مؤتمر لندن قبيل الحرب، والذي أصر فيه المجلس الأعلى وأطراف شيعية أخرى على الأخذ بمبدأ المحاصصة، فرضخ المشرف الأميركي، زلماي خليل زاده.
هكذا جاء بناء ما يعرف بالعراق الجديد، الذي نعرف كيف تطور لنجد أنفسنا اليوم أمام سلسلة أزمات وصراعات ومخاطر كبرى ومستقبل غير مضمون، لا أمنيا، ولا سياسيا، ولا سياديا. ونعرف أنه في عامي 2004 و2005 بادر الدكتور الفاضل احمد الجلبي لتأسيس ما يدعى ب quot;البيت الشيعيquot;، داعيا السنة [ كما أتذكر] لبناء بيتهم الطائفي الخاص. وينقل عنه الأستاذ رشيد خيون قوله حين سقط النظام السابق quot; الآن سقطت دولة السنةquot;، مبديا [ أي خيون] استغرابه لصدور تصريح كهذا من رجل عرف بالعلمانية واللبرالية. ومما عقد الأجواء أيضا مبادرات متطرفين من شيعة بغداد لاحتلال عدة جوامع سنية بحجة عائديتها للوقف الشيعي.
إذن، وُصِم النظام السابق، عند معظم ساسة الشيعة، بالهوية السنية، وهو ما فتح الباب أمام تأجج وتصاعد اتساع الطائفية، التي كان يمارسها صدام في العقد الأخير من النظام السابق، ثم وصولها لحرب طائفية دموية بين 2006 ومنتصف 2008 بعد أن استغلت القاعدة المناخ المتفجر، وأقدمت على تفجيرات سامراء، التي كانت صاعق تفجير للحرب الطائفية.
ومما ساعد على الالتباس بين البعث والسنة أن صدام ولد في محافظة سنية، كما أن معظم ساسة السنة قد قاطعوا الانتخابات الأولى ورفعوا شعارات quot; لا للاحتلالquot;. وقد ندموا على ذلك فيما بعد وحاولوا التصحيح. ومن المفارقات أن بينهم اليوم من يتمنى لو بقيت القوات الأميركية حفظا للسلامة، كما يعتقدون.
لقد وصل العراق اليوم مرحلة لا يحسد عليها وذلك مهما طبلت دعايات أحزاب الحكم وزمرت، حتى يمكن القول إن عراقتنا اليوم هو بمثابة الرجل المريض في المنطقة، وكل طرف إقليمي يريد نصيبا منة، إن كان نصيبا كبيرا أو قليلا، وسياسيا فقط أو أكثر وأوسع وهو الحالة الإيرانية، التي تعرض اليوم على العراق مدربين عسكريين بدل الأميركيين.
بعد حكم الطغيان الشمولي، ومركز صارم في المركزية المطلقة، صرنا مع حكم شبه إسلامي، قائم على المحاصصة الطائفية والعرقية لا على مبدأ المواطنة. وبعد مركز يقوده الفرد الأوحد والقائد الضرورة ويحتكر فيه كل السلطات، نجد اليوم مركزا يسير من يديره على طريق مماثل. فالسيد المالكي يحتكر رئاسة مجلس الوزراء [ الذي لا قانون له!!!]، والوزارات الأمنية، والهيئات quot; المستقلةquot;، التي أدخلها تحت خيمته الواسعة، فإذا هي لا مستقلة ولا يحزنون؛ وإذن فهو من يتصرف، حسب أجندته، بما يسمي بهيئة المسائلة، وبهيئة الانتخابات- فضلا عن المحكمة الاتحادية التي صارت طوع بنانه. وأمام هذا الاحتكار quot;الدعوويquot; الفردي للعتلات الأساسية للسلطة، صرنا نشهد محافظات ينزع كل منها ليكون إقليما على نمط كردستان، وعلما بأن دستورنا الممسوخ، القائم على أحكام الشريعة وتمييع الصلاحيات، يعطيهم الحق.
وكانت أحزاب شيعية هي التي سبقت محافظة صلاح الدين* بالمطالبة بإقامة إقليم من محافظات ثماني في الجنوب والوسط، ثم رأينا محافظة البصرة تهدد من وقت لآخر، وهلمجرا. وكنا قد كتبنا في السنوات الأولى مقالات [ كما أرسلنا رسائل لبعض كبار المسئولين] عن مخاطر قيام أقاليم خارج كردستان ذات الطابع الخاص، وانتقدنا الدستور الفضفاض في موضوع الصلاحيات.
تبقى هناك، ورغم كل ما مر، ورغم نوايا هؤلاء أو أولئك، حقيقة كبرى لا يجب نكرانها، وهي أنه لو سار المالكي على مبدأ العدالة والنظرة المتساوية للعراقيين والمحافظات، لما نشطت دعوات الأقاليم فجأة هذه الأيام لتثير أزمة جديدة فوق أزمات، ولتفجر ضجة لم نعرفها عند مطالبة أحزاب شيعية بإقليم المحافظات الثماني على أساس طائفي!!
إيلاف في 6 نوفمبر 2011
[ هامش: أرسل لي صديق عراقي من مثقفي وساسة الشيعة مقالا للكاتب حيدر سعيد [ لم يسبق أن قرأت له]، بعنوان quot;خطاب مفتوح إلى دولة رئيس الوزراءquot;، يرد فيه التالي بلغة السخرية:
quot; نعم، يراد من مشروع إقليم صلاح الدين أن يكون مأوى للبعثيين، حتى وإن كان رئيس مجلس المحافظة بالوكالة، الذي أعلن الطلب، في ذلك المؤتمر الذي سيغدو شهيرا، بكل تأكيد، هو صديقي سبهان ملا جياد، الشيوعي السابق، الذي اعتقل لسنوات طويلة في سجون صدام..........، واعتقلت معه زوجته وهي حامل، وولد ابنه في سجون النظام. سبهان، الشيوعي السابق، الذي يفكر الآن بطريقة لبرالية، كان أحد أكثر الحالمين بعراق حر، يتخلص من استبداد البعث وطغيانه. ومع ذلك فهو ابن محافظة صلاح الدين، وهذا يعني، بمنطق أرسطوي بسيط، أنه بعثي!!quot;
والسخرية واضحة. وأضيف أن من أوائل ضحايا الاغتيالات البعثية في أيام الصراعات بعد ثورة 14 تموز كان صديقي الشيوعي النبيل، الشهيد ممدوح الآلوسي، وكان من تكريت. وفي كل محافظة أخيار وأشرار.