مع إعلان اوباما عن انسحاب القوات الأميركية كلها من العراق، تسجل إيران انتصارا كبيرا وبارزا في العراق والمنطقة، فيما سيواجه العراق مزيدا من الأزمات والعنف والتطرف ومزيدا من عربدات عملاء إيران، وتسلل جحافل فيلق القدس.
جاء القرار بسبب إصرار الحكومة العراقية، وتحت ضغوط إيران وأدواتها[ خصوصا الصدر]، على عدم منح الحصانة للجنود الأميركيين مع أنهم ليسوا قوات مقاتلة، بل لتدريب الجيش العراقي. من يدري، فلعل هذا الرفض جاء مرضيا لرغبات البيت الأبيض نفسه، كورقة انتخابية، خاصة وإن دعايات وسائل الإعلام الموالية لأوباما راحت تنسب له حتى انتهاء عهد القذافي، مع أن أميركا ظلت في المؤخرة وإن سركوزي وكاميرون هما من تصدرا الحملة.
في مقال سابق، عالجت موضوع بقاء قوات أميركية أو عدمه، وقلت أن لا أحد يحب وجود أية قوة عسكرية أجنبية على أرض بلاده، إلا إذا كان ذلك لمصلحة وطنية مرحلية تتلاقى مع الغير، وأضفت أن قوة أميركية صغيرة للتدريب لن تكفي حتى لرد الهجمات عليها من المليشيات المعادية والمرتبطة بإيران، وإنما المفترض، لو بقيت قوة أميركية، أن تكون قادرة أيضا على القتال بجنب القوات العراقية. وكان القادة العسكريون الميدانيون الأميركيون يفكرون بقوة لا تقل عن15- 20 ألف جندي.
القوات العراقية برهنت على عجزها عن حماية أمن المواطنين وصيانة حدود الوطن، فهي مليئة بعناصر المليشيات الحزبية التي لا تعترف بغير أحزابها ومن وراءها، وهي لا تزال غير مدربة تدريبا كافيا، أو مسلحة بما يكفي- فضلا عن أن الفساد والتواطؤ قد سمحا في السنوات الأخيرة باختراقات أمنية كبرى كان ضحاياها ألاف العراقيين.
نعم، لا ينبغي أن يبقى جندي أميركي واحد للأبد، ولكن الوضع العراقي الراهن هو في غاية التعقيد ومشبع بالأزمات، وباعث على القلق الشديد، خصوصا بسبب الصراعات السياسية والتدخل الإقليمي، وعلى الأخص التدخل الإيراني المتعدد الأشكال والركائز: في السلطة، والمليشيات، والجمعيات المبرقعة باسم الخيرية أو الدينية. وليس من الصدف أن يفتتح آية الله الشهروردي القادم توا من إيران مكتبا، وهو من الغلاة وأحد مرجعيات مقتدى الصدر مع الحائري. ولعل من نتائج الانسحاب ازدياد قوة مقتدى الصدر، حتى على حساب المالكي، ومزاحمة مرجعية شهروردي لمرجعية السيستاني- أي نقل المرجعية الشيعية إلى قم.
لقد برهنت الطبقة الحاكمة العراقية، بكل أجنحتها، على قصور[ عند البعض هو تعمد واع] في الرؤية السياسية والحكمة وفي قراءة موازين القوى الإقليمية وفهم تضاريس الوضع العراقي، وعلى عجز في الانطلاق من المصالح الوطنية العليا، والقبول بإملاءات إيران، والصمت عن اعتداءاتها المستمرة على أراضينا ومياهنا.
مقتدى الصدر، الذي رجع للنجف ليعيد ترتيب لواء الحق الموعود لمحاربة الأميركيين، يطالب هذه المرة بمقاتلة موظفي السفارة الأميركية أيضا وطردهم، ويقترح دعوة مدربين عسكريين آخرين للعراق، قاصدا دون شك من إيران لتكتمل الهيمنة الإيرانية السياسية، والأمنية، والمذهبية، والثقافية، والاجتماعية، بهيمنة عسكرية باسم التدريب وكأنه لا يكفي وجود ألاف المقاتلين المسلحين التابعين لإيران، ومن عناصر فيلق القدس. ولا يكتفي أعداء الديمقراطية والمواطنة، من الموالين لquot;لجارة الشرقيةquot; بهذا القدر، بل ومنهم من راحوا يطالبون الأميركيين بدفع التعويضات عن جرائم النظام السابق ضد انتفاضة مارس 1991، وهي الانتفاضة التي أجهضتها إيران نفسها بفيلق قدسها وبمليشيات الأحزاب الدينية الحاكمة اليوم، حين راحت تتدخل فيها لتوجيهها وجهة طائفية، وترفع صور خميني وخامنئي. وإذا كان هناك من تجب محاسبتهم- بعد النظام السابق- فهم هؤلاء أنفسهم الذين أجهضوا الانتفاضة على النحو المار، وعملوا على دفعها للمطالبة بنظام فقيه في العراق يكون ملحقا بالنظام الإيراني. وربما سيطالبون أميركا بدفع فواتير جميع جرائم النظام السابق، ولكن دون أن يسألهم احد عما فعلوه هم بالعراق خلال الحرب من عمليات تخريب وتفجير ضد المنشآت الوطنية والمدنيين والجنود العراقيين.
إن إدارة أوباما تحاول تلطيف الحقيقة عن مدى الهيمنة الإيرانية على مقدرات العراق كأحد مبررات الانسحاب الكامل. وها هو نائب مستشار الأمن القومي، دينيس ماكدونية، يقول- في رد على جون ماكين [المتخوف من الفراغ الذي ستشغله إيران] :
quot; إيران تعيش في عزلة متزايدة حاليا بسبب نشاطات غير متصلة بالوضع في العراق قامت بها الولايات المتحدةquot;؛ ولعله يقصد الضجة الأميركية غير الفاعلة حول خطة اغتيال السفير السعودي. ومسئول أميركي آخر يصرح لقناة سي. إن. إن. بأن من quot;المستبعد أن تخضع بغداد لطهران بشكل كامل، وأن ذكرى الحرب الطويلة معها ليست بعيدة.quot; فما أكثر هذه التصريحات سذاجة، وبعدا عن واقع الحال في العراق وعن مدى النفوذ الإيراني الكاسح في البلاد.
إدارة أوباما تتحمل مسئولية هي الأخرى عما يجري وسيجري، وهو ما عالجناه في مقالنا الأخير. والرضا الأميركي بالوضع السياسي العراقي الراهن، وعدم انتقاد تصرفات ومواقف الحكومة العراقية، ومحاباة رئيسها - في اتفاق الأمر الواقع مع إيران- شاهد على ما نقول.
إن الوضع العراقي، بل وضع المنطقة كلها، سوف يزدادان تأزما وظلاما، وسوف تعمل إيران وأتباعها على مزيد من استخدام العراق ورقة وساحة في الصراع مع أميركا على أرض العراق، والعراق سيكون مرشحا لمزيد من العنف ولمخاطر عودة الحرب الطائفية، والتطهير الديني، وخطر تصفية الصحوات، وازدياد القمع وملاحقة العلمانيين وسائر المعارضين للطائفية والهيمنة الإيرانية، وأيضا خطر عودة الانفجار بين المركز وكردستان. كما أن الانسحاب الأميركي الكامل سوف يزيد من معنوية النظام السوري، ويساعده على مواصلة العنت والاستهتار بالأرواح.
لسنا من دعاة بقاء أية قوة أميركية مؤقتا إلا لمصلحة عراقية، مثلما نجد لحد اليوم وجودا عسكريا أميركيا حتى في دول كبيرة ومهمة كألمانيا واليابان.
خلال كتابة هذا المقال، سألت صديقين من المثقفين العراقيين المعروفين عن رأيهما، فأجاب الأول:
quot; إن المتضرر الوحيد هو العراق، وإن دول الجوار وقوى الإرهاب في العراق ستعتبر انسحاب القوات الأميركية نصرا لها، وسيدعون بأنهم هم الذين انتصرواquot;. وهو يعتبر أن القرار العراقي جرى تحت الضغوط الإيرانية.
الصديق الثاني أجاب:
quot;صدمت من القرار الأميركي، وإن المجموعات السياسية العراقية لم تكن على قدر واحد من المائة من المسئولية الوطنية باتخاذ قرار صائب لمصلحة العراق وأمنه. إن الانسحاب، الذي تمنته إيران، سيفسح المجال -دون صعوبات - للجماعات المتطرفة الشيعية في بناء دولة دينية على النمط الإيراني، بقيادة المالكي أو غيره. وهناك احتمال ثان، هو تقسيم العراق الذي ناضلنا جميعا من أجله كوطن لجميع العراقيين؛ عراق ديمقراطي، لسوء الحظ، قد يختفي خلال عمرنا.quot;
فما أصدق ما قالاه!