منذ اندلاع ما يدعى خطأ بـquot;الربيع العربيquot;، والنقاش يتصاعد ويتسع، في الغرب وفي العالم العربي، عن دور الإسلاميين في الأنظمة الجديدة. هذا النقاش ليس جديدا، ولكنه تصاعد بزخم كبير مع انفجار انتفاضتي تونس ومصر بوجه خاص. ومما يعطي للمسألة استثنائية خاصة ما ظهر وبرز من ميل إدارة أوباما للتعايش مع أنظمة حكم عربية إسلامية-[ اقرأ خاصة المقال المهم للأستاذ عصام عبد الله في إيلاف بتاريخ 29 أكتوبر 2011 *]، وانتشار الآمال والأوهام عن تحولات مزعومة نحو الديمقراطية والدولة المدنية العصرية عند ساسة وأحزاب الإسلام السياسي في الدول العربية، وخصوصا عن الحالة التونسية، مع كثرة الحديث عن النموذج التركي، الذي عالجناه في المقال السابق وفي مقالات من قبل. وأكثر الآمال، في معظم التحليلات، مبنية على التجربة التونسية وصعود حزب النهضة. أما من المقالات القليلة غير المتفائلة عن الحالة التونسية فهناك مثلا مقال للمحلل الفرنسي quot; آلان جيراد سلاماquot; بعنوان [ الانتخابات في تونس: تحت الياسمين أشجار الصبّار] في الفيجارو عدد 26 أكتوبر المنصرم، والذي ينتهي بالقول:
quot;في البداية، لم يلعب حزب النهضة دورا ما في ثورة الياسمين. إلا أن كل الشروط تجمعت، في بضعة شهور، لكي يصادر الثورة لصالحه، ولكي يهز مجموع الربيع العربي نحو سنوات
ستكون على الأرجح سنوات كالحة من أشواك الصبّار.quot;
إن النقاش الجاري عن quot; الإسلاميين المعتدلينquot;، وكما هو واضح، ليس عن الإسلاميين quot;الجهاديينquot;، أي الإرهابيين، ولا عن السلفيين التكفيريين، الرافضين علنا لكل القيم الديمقراطية وبلا قناع، والممارسين علنا لكراهية الآخر غير المسلم وضرب أماكن عبادتهم، وبل وتكفير الفرق المسلمة الأخرى من غير الفرع السلفي الصحراوي التكفيري. وليس الحديث طبعا عن ساسة مؤمنين يمارسون الفروض الدينية ولكنهم علمانيون، من أمثال إياد جمال الدين اليوم في العراق، وقبله كان محمد رضا الشبيبي ومحمد الصدر وآخرون، من شيعة ومن سنة.
الحديث إنما هو عن الإسلام السياسي العربي quot; السنيquot;، بكل فروعه وتنويعاته، أي عن الإخوان المسلمين الذين يتخذون لتنظيماتهم أسماء شتى، كquot;النهضةquot;، وحماس، والحزب السياسي الإخواني الجديد في مصر، ونضيف الأحزاب الدينية الشيعية الحاكمة في العراق. وحين نتحدث عن أحزاب الإسلام السياسي، بالمذهبين، فالمقصود، كما هو معروف، الأحزاب التي تحمل أيديولوجيا تستخدم الدين للوصول للسلطة، وبهدف إقامة الدولة الدينية ببراقع مختلفة، وعلى مراحل متدرجة، وبتكتيكات شتى، سواء حكمها رجال دين كما في إيران، أو من يلبسون السترة والسروال، أو حتى بالأربطة الحريرية، أو اللباس العسكري كما في السودان؛ وسواء كانت هي دولة الخلافة أو دولة الإمام الغائب!! والمشترك في هذه الأيديولوجيا السياسية quot; المتدينةquot; اعتبار أحكام الشريعة هي المرجع الرئيسي والأساسي للتشريعات، والنظرة للمرأة كمواطنة من الدرجة الثانية، و التمييز الديني تجاه غير المسلمين، ورفض حرية المعتقد وحرية الفكر. كما أن المسألة هنا ليست في رفض نتائج انتخابات يفوز فيها هؤلاء الإسلاميون بالمقام الأول، أو معاداتهم، أو إدانة التعامل الغربي معهم، وإنما هل تجب الثقة بالأقوال الناعمة والمطاطة؟ وهل تجب على القوى اللبرالية والعلمانية التحالف السياسي معها كما يفعل الوفد مع الإخوان منذ بدايات الانتفاضة؟ وهل تجب المشاركة معهم في الحكم إن كانت بأيديهم هم المفاصل الحاسمة للسلطة والأكثرية البرلمانية؟؛ أم إن الطريق السليم هو العمل لتحالف القوى الديمقراطية واللبرالية العلمانية ولو ظلت في المعارضة البرلمانية، مع مهمة تنوير المواطنين، ونقد الأخطاء التي يقترفها الحكم الجديد؟؟
لا أعتقد أن من البلاهة، أو البلادة، أو السذاجة السياسية أن نتعظ بتجاربنا السياسية المريرة والمؤلمة، وبتجارب الآخرين، أو أن نحكم على الساسة بأفعالهم ومواقفهم وليس بمجرد تصريحاتهم ووعودهم وتطميناتهم وهم خارج الحكم، لاسيما حينما نعرف مسيرتهم السياسية السلبية على مدى عقود من السنين. وكما نعرف، فإن التصريحات والوعود في المعارضة شيء، والوفاء والتنفيذ الأمين لها عند تولي السلطة شيء آخر.
ولعل من أوليات شروط مصداقية التغيير والتصحيح الاعتراف العلني بخطأ وخطر الطريق والنهج السابقين والعقيدة السياسية التي كانت وراءهما.
لقد احتل القرضاوي وبعض زعماء الإخوان ميدان التحرير بعد مدة من تفجير الشباب اللبرالي للانتفاضة، رافعا شعار quot; دولة مدنية بمرجعية إسلاميةquot;، وهو شعار تمويهي مراوغ لستر هدف الدولة الدينية، كما بين ذلك، بإقناع وعمق، الأستاذ أحمد معطي الحجازي في سلسلة مقالات له. فالدولة المدنية قد تعني دولة لا يحكمها العسكر، أو مشايخ الدين، ولكن الحكام يحملون ويطبقون أجندات [ الإسلام هو الحل]، سواء تدريجيا، أو مع الزمن، وحسب الظروف وموازين القوى والعلاقات الدولية والإقليمية. والدولة المدنية الديمقراطية لا يمكن أن تكون غير دولة علمانية تفصل الدين عن السياسة وشؤون الدولة [ لا عن حياة المجتمع]. وإخوان مصر سرعان ما راحوا، بعد التطمينات، يتحدثون عن quot;إقامة الحدquot; في المستقبل، ثم أعلنوا أمام الملأ عن رفض هدف العلمانية الذي جاء في خطاب لأردوغان في القاهرة. ومواقف الإخوان المصريين من الأقباط لا تختلف جوهريا عن مواقف السلفيين التكفيريين برغم التطمينات والتصريحات الزئبقية.
الحديث اليوم يتركز خاصة على التجربة التونسية وفوز النهضة. غالبية التعليقات تبشر بالخير ومليئة بالتفاؤل عن أن هذا الحزب سيقتدي بحزب أردوغان ويبني دولة على النموذج التركي، وسيحافظ على المكتسبات الإيجابية التونسية. والنهضة راحت تطلق تصريحات التطمين المتتالية عن المرأة والعلاقات مع الغرب، ولكن لم نسمع عن أي إعلان بمراجعة السجل السابق وما إذا كان خاطئا؟!!! مثلما لم نسمع من القرضاوي تقييمه اليوم لفتاواه عن قتل الأميركيين في العراق، مدنيين وعسكريين، وعن رفض شجرة الميلاد ورفض تهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد. وفي تونس، لم نسمع أو نقرأ عن تقييم اليوم لكتابات سابقة مثل:
quot; إن الخطر الأكبر الذي ينبغي أن تتجه كل طاقاتنا اليوم هو التحدي للزحف الأمريكي الإمبريالي على القلب من أمتنا، وإدانة كل تعاون أو تعاطف أو ولاء، فكل ذلك موبقات دينية عظمى وخيانات وطنية لا تغتفر. وإننا سنقاتلهم فتكون معركة الكفر كله مع الإيمان كله فنجهز على الشر كله، ويولد عالم جديد، وتنطلق دورة جديدة لحضارة الإسلام........ quot; وquot;ليس أمام أمتنا إزاء المصير الرهيب غير الجهاد بكل معانيه ومستلزماته.quot; [ مجلة الإسلام، فلسطين 6 شباط 1991. ]
لقد فسر السيد الغنوشي دور بورقيبة في اعتماد مدونة الأحوال الشخصية، التي منعت تعدد الزوجات وساوت في الإرث بين المرأة والرجل، بأن بورقيبة كان يمارس quot;اجتهادا فقهياquot;، أي لم يكن ينطلق من الإعلان الدولي لحقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية في المساواة بين الجنسين، وسائر الاتفاقات الدولية عن حظر كل أشكال التمييز ضد المرأة. وهذا ما ناقشه الأستاذ عادل الطريفي في الشرق الوسط بعنوان quot; الغنوشي quot; العلمانيquot; وبورقيبة quot; الواعظquot; [ عدد 26 أكتوبر المنصرم].
والآن، فمن هم اليوم الإسلاميون العرب المعتدلون، أي المؤمنون حقا بالدولة المدنية الديمقراطية، عندما لا نجد بينهم من اعترف بأخطاء ممارسة العنف وتشجيع التطرف، والعلاقات المشبوهة مع إيران، واتخاذ مواقف مراوغة من هجمات القاعدة في الغرب، وكذلك التواطؤ في -بعض الحالات - والتعاون مع أنظمة عربية مستبدة؟؟!! وهل تكفي تطمينات اليوم وتعهدات الحملة الانتخابية والأيام التي تليها مباشرة، أي قبل تسلط الإسلاميين على مقاليد السلطة؟ هل نشطب على الماضي دفعة واحدة؟؟!!
التجارب علمتنا أن أحزاب الإسلام السياسي تمارس التقية، أي حمل الأقنعة التي يستخدم كل منها حسب الظرف. وماذا لو quot;تملكوا الأرضquot;؟؟ ألن يقيموا الحد؟؟ والتجارب علمتنا أيضا أن هذه الأحزاب، ما أن تتسلم السلطة بقوة وتحكم، فإنها لن تتخلى عنها، وستمارس كل الأساليب للتشبث بها، فهي لا تؤمن بتداول السلطة السلمي. والعراق آخر مثل.
لا أقول باستحالة تحول هذا السياسي الفرد أو ذاك من ساسة الأحزاب الإسلامية، تحولا ديمقراطيا علمانيا، ولكن الأمثلة نادرة جدا. ولحد اليوم عندنا في الساحة العراقية مثال واحد، مثلما هناك ماركسيون عرب سابقون صاروا إسلاميين. إنما القضية هي عن الأحزاب نفسها التي قامت أصلا على ربط الدين بالسياسة واستخدام الدين جسرا نحو السلطة.
إن ما يحصل من تغيير عند بعض هذه الجماعات هو تغيير في الخطاب والتكتيك السياسي والوسائل لا تغيير في الفكر والمنطلقات. أما إذا أمكن بناء دولة عصرية ديمقراطية بالمفاهيم والمنطلقات والمرجعيات نفسها، فسيكون ذلك من باب المعجزات. فهل صرنا في زمن المعجزات؟؟!!!!!
على كل، فإن هذا الموضوع مفتوح للحوار الواسع وتبادل الآراء وتجاذبها. ولعلنا عائدون.
إيلاف في 1 نوفمبر 2011
[ *هامش:
في مقال عصام عبد الله معلومات مثيرة عن دور quot; لوبي إسلامي راديكاليquot; يتغلغل في البيت الأبيض والكونجرس ووزارة الخارجية الأميركية، وخصوصا دور مستشارة أوباما للشؤون الإسلامية السيدة داليا مجاهد المتصلة بإخوان مصر، التي ينسبون لها إلغاء زيارة البطريك الماروني لواشنطن بطلب إخواني. كذلك عرقلة اتصال ممثلي الكنائس العربية بحجة أن من الواجب دعم التيار الإسلامي [ السني] باسم مقاومة التيار الإيراني في المنطقة.
على صعيد آخر، تنقل الفيجارو الفرنسية [ عدد 31 أكتوبر المنصرم] عن مصادر إيرانية وسورية، واستنادا لشهادة السفير الفرنسي في دمشق، معلومات عن أن قوى متنفذة في إيران راحت، وخلافا لموقف الحرس الثوري، تفكر فيما بعد الأسد، وأن هناك فتورا منذ شهور بين دمشق وطهران. ومن ذلك أن الزيارات بين البلدين تجري من الجانب السوري وحده. وتقول المعلومات إن بعض المسئولين الإيرانيين اجتمعوا قبل اجتماعات الجمعية العمومية بمسئولين أميركيين للبحث في الوضع السوري وأن الإيرانيين اقترحوا تشكيل مجلس عسكري سوري بعد سقوط النظام يقوم هو بتحديد الإستراتيات الأساسية وذلك على النمط المصري. وتقول الصحيفة إن هذه الاتصالات انقطعت عشية الجمعية العمومية.
على كل، وبصرف النظر عن مدى دقة كل هذه المعلومات، فإن كل المؤشرات تدل على ميل أوباما وإدارته للتعايش مع منطقة شرق أوسطية إسلامية بانتخابات ].