لقد نشرنا على مدى الشهور المتلاحقة عشرات المقالات عن الانتفاضات العربية- [ عالجت ذلك أيضا في كتابي الأخيرquot; رحلة مع تحولات مفصليةquot;، وفي حوار مع الصحفي والفنان قيس عبد اللطيف في يو تيوب] ، التي يسمونها بquot;الربيع العربيquot;، وهي تسمية لا أتفق معها بتاتا، لأن المقصود مقارنتها بما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين؛ وشتان. فتلك الدول كان لها عموما اقتصاد متطور، وبنى تحتية وثقافة متطورة لحد جيد، وكانت متقدمة في الموقف من المرأة، التي أعتبر الموقف منها معيارا حاسما من معايير تقدم المجتمعات. يضاف أن تلك الدول كانت محاطة بأنظمة غربية متطورة ساعدتها على التحولات الديمقراطية في مختلف الميادين، وهي تقبلت برحابة صدر تلك المساعدات، ومعظمها انضم للاتحاد الأوروبي، وبعضها لحلف الأطلسي. وهذا الموقف من الغرب لا يتوفر عندنا، أي في البلدان العربية والإسلامية، لأن كراهية الغرب هي في صلب مقومات ثقافتنا السياسية، ثقافة الشارع والنخب السياسية والدينية. ونجد ذلك حتى بين أكثرية العرب والمسلمين الذين يعيشون في الغرب ويتلقون المعونات والعناية الصحية والاجتماعية ويتمتعون بالحريات والحقوق الواسعة، ومع ذلك فهم ينظرون بشك ونفور، وحتى برفض، للقيم والمبادئ الديمقراطية الغربية، بل وهناك كثرة تحاول أن تفرض على هذه المجتمعات قيمنا المتخلفة، سواء في التعامل مع المرأة، أو رفض الحرية الدينية وحرية الرأي والتعبير. وهذا ما كتبت عنه مرارا.
لقد قرأت حوار إيلاف عن ليبيا في إيلاف عدد 25 أكتوبر الحالي مع الأستاذ محمد عبد المطلب الهوني، وأنا أؤيد ما ذهب إليه باستثناء تفاؤله عن الوضع التونسي. وفي اليوم نفسه قرأت مقابلة السيد عبد الله ناكر، quot;رئيس ثوار طرابلسquot;، - كما يصف نفسه- في الشرق الأوسط. هذه المقابلة تدعم بطريقة أخرى ما قاله السيد الهوني، وهي تكشف جليا بلا لبس عندي عن النوايا الحقيقية للمسلحين الليبيين، الذين يلعب الإسلاميون، وحتى أنصار القاعدة، دورا كبيرا بينهم.
السيد ناكر يهدد من الآن بوجوب تغيير طاقم السلطة الانتقالية في بنغازي بعد استقرار الأمور، ولاسيما إقصاء العلمانيين من أمثال جبريل، ويقول بالحرف الواحد:quot; لن نسكت عن الخطأ ولو لجأنا للسلاح.quot; أي إن حملة السلاح، وهم سادة الموقف الحقيقيون، يعلنون أن أخطاء المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي، أو أخطاء أية حكومة قادمة ولو منتخبة، لا تقابل بالعمل السياسي السلمي بل بحد السلاح- هذا السلاح الذي يقولون إنهم لن يسلموه الآن. كما يوجه تهديدات بالتصدي quot; لأي تدخل خارجي مباشر، كمن يريد أن يفرض علي أجندة أو يفرض علي سياسة، او أشخاصاquot;. فماذا يقصد؟ هل يقصد رغبات دول الأطلسي، التي هي التي حسمت الحرب الأهلية، بتبني ليبيا للقيم الديمقراطية؟؟
نعم، لا عقلية الشارع العربي، ولا ثقافة النخب السياسية، [وإلا نادرا]، تؤهلنا اليوم لبناء أنظمة عصرية تقوم على العلمانية الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون. فالثقافة السائدة والمهيمنة هي مزيج من القيم القبلية الممزوجة بالتزمت الديني، والمتسمة بالميل للعنف، [ طريقة قتل القذافي الوحشية نموذجا جديدا]، والإقصاء ورفض التداول السلمي للسلطة، وحيث يقرنون العلمانية بالإلحاد، كما يقول الهوني- وهو على كل الحق. وفي هذه المجتمعات، ومنذ العقود الأخيرة، راحت تنشط تيارات وأحزاب الإسلام السياسي، من المذهبين السني والشيعي، والقوى السلفية، التي تجد دعما قويا، في الإعلام [ الجزيرة مثالا صارخا]، وتمويلا من بعض دول الخليج وإيران. ونذكر إيران لأنه، برغم الفروق المذهبية، فإن معاداة الغرب والنظرة للمرأة الحرية الدينية والمصالح المؤقتة تجمع بينها وبين قوى الإسلام السياسي السني، والإخوان تحديدا، وحماس هي المثال الأبرز وكذلك نظام البشير وطالبان؛ بل إن إيران تستخدم عناصر القاعدة أيضا وتدعمها كما يحدث في العراق والصومال وغيرهما.
إن تصريحات السيد مصطفى عبد الجليل عن أحكام الشريعة وإعادة النظر في قانون تعدد الزوجات [ ولعله الحسنة النادرة للقذافي] لا تبشر بأي خير فيما يخص التوجهات الحقيقية للثورة الليبية، وما قاله ليس مجرد محاولة لترضية الإسلاميين الذين يطوقونه، بل يبدو أن هذه هي عقيدته شخصيا. ومهما يكن، فالظاهر أن هذا الاتجاه هو الذي تريد السير عليه القوى الأساسية في الثورة الليبية برغم بعض التطمينات للغرب، وهي تشابه تطمينات حزب الغنوشي! وشبيه ذلك حالة مصر، حيث كشف الإخوان عن أوراقهم مرارا برغم محاولات التطمين وإبداء النوايا الحسنة، وبرغم اتصالاتهم بالإدارة الأميركية، التي يبدو أنها تريد التعاون مع إخوان المنطقة العربية، مباشرة أو من خلال تركيا. وكانت النقطة الحرجة التي أجبرتهم على رفع القناع quot; المدنيquot; على المكشوف [ والإسلاميون أصحاب أقنعة] في رعبهم من كلمة quot;العلمانيةquot; التي استخدمها أردوغان ورفضهم لما قال، برغم أنه قال أيضا إنه شخصيا ليس علمانيا ولكنه يدير دولة علمانية [ نسي أن يقول إن حزبه ليس من أقام النظام العلماني التركي بل كمال أتاتورك، وهم يقبلونه على مضض مع محاولات قضم العلمانية تدريجيا وبمهارة وهدوء وصبر في مراعاة للغرب. والسيد الغنوشي ما أن أعلنت النتائج الأولية للانتخابات، حتى طالب برئاسة الحكومة لحزبه، وراح يصرح بأن رواج اللغة الفرنسية في تونس مناوئة للهوية العربية للبلد، وهذه نفس نغمة الجماعة الجزائرية في الجزائر في التسعينيات. قال:quot; لقد تحولنا لعرب متفرنسين، وهذا تلويث لغوي.quot; [ علقت الفيجارو على هذه التصريحات في عدد 27 أكتوبر 2011 ].
إن الانتفاضات الجارية أسقطت جدار الخوف العربي، وهذا بحد ذاته خطوة تاريخية مهمة في المنطقة. ولكن الهدم بحد ذاته لا يعني التغيير الثوري ما لم تستطع النخب والجماهير المتنورة بناء النظام الأفضل. نظام الديمقراطية العلمانية والعدالة وحقوق الإنسان. ولكن المنطقة الخاضعة لثقافة القرون الوسطى والعنف والكراهية والاجتثاث، [باستثناء تخب علمانية ديمقراطية جريئة ولكن مهمشة اليوم]، مرشحة -مع الأسف - للدخول في خريف كئيب قاتم، إن لم يكن شتاء مضطربا كالحا، مفتوحا على احتمالات خطرة، وأعني شتاء هيمنة الإسلاميين، من المذهبين، على نطاق المنطقة كلها، مع أفاق دوامات الفوضى والاضطرابات، وتصفية الحسابات الدموية، وتغير وتبادل التحالفات.