عراق اليوم أشبه بالمركب التائه في بحر الأزمات؛ ربابنته يتصارعون ويتقاذفون بالاتهامات، فيما القراصنة، من داخل المركب ومن خارجه، ينهبون، ويقتلون الركاب.
كثرة من المقالات والتعليقات، خصوصا الصادرة عن إسلاميين أو بعثيين وقوميين آخرين، أو عن يساريين غربيين، تنسب مآسي عراق اليوم حصرا للحرب الأميركية والوجود الأميركي، هذا الوجود السائر للانحسار، فالتلاشي يوما ما.
يقدمون لنا quot;أطباقاquot; من الجنايات والمآسي والكوارث العراقية على كونها من طبخ أميركي بامتياز: الطائفية؛ الفساد الأخطبوطي؛ التفجيرات والكواتم وخطف الأبرياء وقتلهم بخسة؛ تصفية المئات من الأساتذة والطيارين العسكريين والأطباء وغيرهم، منذ سقوط صدام؛ تدمير التعليم ومذهبته وتديينه، وتحريم الموسيقى والفنون؛ الفقر والبطالة المستشريان؛ صراعات الطبقة السياسية ومهاتراتها المتبادلة؛ الصراعات بين المركز وإقليم كردستان؛ ضرب الحريات العامة والفردية، وعودة أساليب صدام في الاعتقالات الاعتباطية والتعذيب والسجون السرية؛ التدخل المستمر لرجال الدين في شؤون الدولة بمباركة الطبقة السياسية وحتى بعض المثقفين العلمانيين؛ نهب تركيا وإيران للمياه العراقية، والعدوانان التركي والإيراني المسلحان على الأراضي العراقية في إقليم كردستان؛ الهيمنة الإيرانية في كل المجالات؛ وماذا بعد! غير ذلك كثير، واأسفاه!
هذه التحليلات السقيمة وغير المنصفة تتناسى حقائق كبرى، وذلك من دون نفي وقوع أخطاء أميركية كبرى زمن الإدارتين السابقة والحالية، سبق لنا التوقف عندها عشرات المرات، ولعل في مقدمتها الثقة التامة بالأحزاب الدينية العراقية، والتسرع في وضع جدول زمني مبتسر لنقل السلطة، ووضع هيئة اجتثاث البعث في أيدي ساسة حاقدين بدلا من الهيئات القضائية، وأخطاء أخرى- هذا سابقا؛ والصمت عن سوء إدارة الحكومة العراقية ورئيسها، وهذا حاليا. وقد توهم الأميركيون أن الانتقال للديمقراطية في العراق بعد عهود الاستبداد وفي مجتمع متخلف محطم، غابت فيه قيم المواطنة يمكن أن يتم بين عشية وضحاها.
وسبق لي أن أكدت مرارا على أن ما يتجاهله المعلقون المتحيزون، من مختلف التيارات والانتماءات، هو دور التدخل الإقليمي، والإيراني خاصة، ودور القاعدة وجحافلها التي كانت تتسلل من سوريا، والسلبية العربية- لسنوات - من العراق بما شجع على مزيد من التغلغل الإيراني. وما يتناسونه أيضا حجم التخريب السياسي والاجتماعي والسيكولوجي الذي أورثه النظام السابق وسياساته في التمييز العنصري والطائفي بما سهّل تدريجيا تهميش مبدأ المواطنة لصالح القواقع الضيقة. أما المسئولية الأولى والحاسمة عن الوضع العراقي المأساوي، فتتحمله الطبقة السياسية، والعقلية السياسية العراقية. لقد قُدمت الحرية للعراقيين بعد عهود الطغيان، فأساء القادة استغلالها، وتراكضوا يبحثون عن الغنائم والامتيازات، حتى صار الفساد العراقي يوصف دوليا بأنه quot;أبشع فساد على وجه الأرضquot;. وقد كشف كتاب استقالة رئيس هيئة النزاهة، الرجل الشجاع، القاضي رحيم حسن العكيلي، عن طبيعة ظاهرة الفساد، وكيف تحميه الأطراف السياسية الحاكمة، مما اضطره للاستقالة بضغط من المالكي. ويقول كتاب استقالته إن quot;إرادة سياسية تدعي الوعي بحجم الفساد المستشري أضحت في الفترة الأخيرة متذمرة بقوة من الرقابة ومن القواعد والقيود القانونية، وتسعى جاهدة لمقاومة أدوات وآليات المساءلة والشفافية، فكأنها مشغولة بمحاربة الرقابيين أكثر من انشغالها بمكافحة الفاسدينquot;. أي اتهام!! لعله موجه أولا، كما يبدو، لرئيس الوزراء الذي لم يكتف بحصر الوزارات الأمنية في يديه، بل أضاف الهيئات المستقلة ومنها هيئة النزاهة وهيئة الانتخابات، على طريقة الحاكم الفرد!
وبينما تستمر عمليات القتل والتفجير يوميا، يستمر معها نشر التطمين والرضا بالنفس عن quot;أهلية وجاهزيةquot; القوات العراقية الأمنية وغير الأمنية، التي تملؤها عناصر المليشيات، وتتسلل لها بسهولة عناصر من القاعدة وبعث صدام بسبب الفساد المنتشر. وهنا يأتي موضوع بقاء أو عدم بقاء قوات أميركية بعد موعد الانسحاب الرسمي وفق الاتفاقية الأمنية. ولا نرى موضوعا، تجري فيه المزايدات المرائية والمناورات السياسية الشعبوية، كهذا الموضوع الخطير. وهو ما سنعود إليه في مقال تال.