أجل، لا عجب في أن تكون أخبار العراق حزينة، كئيبة، مقلقة، وعلى الدوام. فلم ير العراقيون من الأحزاب الحاكمة بعد سقوط نظام البعث الصدامي، غير تكرار للمآسي، ربما بصيغ جديدة، وغير إعادة إنتاج لممارسات سابقة توهمنا أنها غابت مع زوال ذلك النظام.
أحيانا، تأتيك الأخبار المقلقة من حيث لا تتوقع، ولكن كان عليك أن تتوقع. وأبدأ بأخبار الحملة quot; الإسلاميةquot;، quot; الإيمانيةquot;، الجديدة في إقليم كردستان، والتي راحت تطال الحريات الفردية في بعض مناطق الإقليم، وخصوصا حريات وحقوق المسيحيين.
لقد تحدثنا مرارا، كما كتب آخرون من كتابنا، عن محنة مسيحيي العراق منذ سقوط النظام السابق، وهي محنة يعاني مثلها بقية مسيحيي المنطقة بدرجات وأشكال مختلفة، وخصوصا أقباط مصر. وقد اضطر عشرات الآلاف من المسيحيين العراقيين للهجرة خارج العراق ـ وآلاف أخرى للهجرة الداخلية نحو إقليم كردستان، الذي كان لهم بمثابة ملاذ آمن نسبيا بفضل سياسة التعايش والأمان لحكومة الإقليم وحزبيها الأساسيين، وبقية القوى الديمقراطية الكردستانية.. ولكن ها هي موجة العنف والتطهير الديني تغزو دهوك وزاخو لتهاجم محلات المسيحيين، وتهددهم، وتتحرش بأماكن عبادتهم، ولتحرق وتدمر محلات quot;المساجquot; والحلاقة والخمور، بما يذكر بquot; مآثرquot; وquot; غزواتquot; جحافل مقتدى الصدر والقاعدة التكفيريين وكل المتطرفين الإسلاميين العراقيين، في بقية أنحاء العراق خلال السنوات التسع الماضية، وحال سقوط نظام البعث.
حملة اليوم تجري منذ أيام على أيدي وحوش من المتطرفين الإسلاميين الأكراد، الرافعين، زورا ورياء، راية التقى والحرص على الدين والعفة بتطهير المنطقة من كل من هو غير مسلم، ومن كل ما لا يتطابق مع الممارسات الظلامية التي يبشرون بها!
مفاجأة؟ لحد ما، ولكن هل هذا كان غير متوقع؟ لا أظن، فقد اتبعت الأحزاب الكردستانية الديمقراطية سياسة مماشاة ومراعاة الإسلاميين ورجال الدين المتزمتين، ودخلت، منذ سنوات المعارضة، في تحالفات سياسية quot; إستراتيجيةquot; مع بعض الأحزاب والتكتلات السياسية الإسلامية الكردية دون أن تعي، بما فيه الكفاية، بأنه- إذا كان التكتيك يقتضي مراعاتهم والتعاون معهم أحيانا - فإن الواجب الأول هو القيام بحملات التوعية بالمفاهيم الديمقراطية، وفضح ممارسات ودعوات التزمت والتطرف الدينيين، والانعطاف نحو تقوية كل التيارات والقوى الديمقراطية وتمتين التحالف بينها.
نعرف أن الإقليم يواجه أولا عدوانا خارجيا، إيرانيا- تركيا، وأنه محاط بدول غير صديقة، بل معادية للتجربة الكردستانية، كما يكتب الصديق الدكتور كاظم حبيب في مقاله الأخير. كما نعرف أن ثمة مشاكل حزبية داخلية كبيرة، وخلافات عميقة مع المركز الفيدرالي. وبالتالي فإن أعباء حكومة وسائر قيادات الإقليم معقدة وكبيرة. ولكن ما يقع اليوم يمثل واحدة من أكبر وأخطر المشاكل التي تواجه الإقليم.
لقد كانت الأجواء الاجتماعية في الإقليم منفتحة عموما، بما في ذلك وضع المرأة. وتطورت نهضة عمرانية واقتصادية مهمة بالعكس من الوضع البالغ في التردي لبقية أنحاء العراق. ولكن السنوات الأخيرة شهدت موجة عنيفة من مطاردة حرية المرأة وحقوقها وزيادة مرعبة في أعداد الضحايا النسائية باسم الشرف، وفي ممارسات ختان الأنثى، وذلك بسبب التخلف الاجتماعي من جهة، واستفحال نفوذ رؤساء العشائر ورجال الدين والكتل والأحزاب الإسلامية من جهة أخرى، واحتمال ارتباط بعضها بإيران أو ببعض دوائر الخليج التي تنشر ثقافة وممارسات التطرف والتزمت.
نعم، لا شك في أن حكومة الإقليم، بالتعاون مع سائر القيادات لكردستانية الديمقراطية، قد حققت منجزات كبيرة في مختلف المجالات، بحيث لا يمكن مقارنة الوضع العام المتقدم هناك بالوضع المأساوي والمتردي باستمرار في بقية أنحاء العراق. وهذا لا يعني أن ليست هناك ممارسات وظواهر سلبية يجب نقدها والدعوة لإصلاحها، كما ورد في مقال الدكتور حبيب أيضا، ومنها مشكلة الفساد وتحرشات بالحريات. ولكن التطور السلبي في دهوك وزاخو وغيرهما يجب أن يثير قلقا استثنائيا، وهو لا يعالج بمراعاة مشاعر الإسلاميين أيا كانوا، بل بمعاقبة المسئولين والمنفذين لتلك الجرائم، واتخاذ التدابير الناجعة والرادعة لحماية المسيحيين وسائر الأقليات الدينية في الإقليم، ونشر ثقافة التسامح والمواطنة بنشاط أكبر.
إن تجربة تحالف القيادات الكردستانية مع الأحزاب الدينية الحاكمة في العراق ليست بتجربة إيجابية نموذجية، وإن الشعب الكردي، الذي عاني الكثير، على مدى العهود، في حاجة لتمتين الروابط مع أصدقائه وحلفائه الحقيقيين من القوى الديمقراطية والعلمانية وليس مع الأصدقاء المزيفين والمراوغين، المعادين للديمقراطية، داخل العراق كانوا أو في دول مجاورة.
******
وبالانتقال لموضوع محزن آخر، سبقت الكتابة عنه، وأعني نية نقل سكان أشرف لسجن مطار المثنى سيء الصيت، ليتم تشتيتهم وتصفيتهم على دفعات، أتساءل عن أسباب حماس القيادات الكردستانية- على ضوء تصريحات متكررة للسيد زير الخارجية- لهذه الخطة الإيرانية الخبيثة، التي سيؤدي تنفيذها للمزيد من تدهور سمعة العراق والطبقة السياسية العراقية كلها. إن ممثلي شعب عاني الكثير، كالشعب الكردي، مدعوون لفهم معاناة لاجئين عزل هم مهددون بالإبادة الدموية، وذلك مهما كان الرأي في مواقفهم السياسية. والأحزاب الكردستانية المشاركة في الحكم مدعوة لممارسة ضغوط كبيرة على المالكي لتأجيل موعد النقل والانكباب على إجراء الاتصالات اللازمة والعاجلة مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والجانب الأميركي لإيجاد حل سلمي للقضية، أي قبول الدول الديمقراطية باستقبال سكان المعسكر كلاجئين سياسيين لهم كل الحقوق المنصوص عليها في القانون الدولي والاتفاقيات الدولية ذات العلاقة.
ومن الملاحظ أن إدارة أوباما،التي تتحدث كثيرا عن الربيع وحقوق الإنسان لم تبد اهتماما ملحوظا بهذه المأساة في مراعاة لنظام الفقيه.
****
أما ثالث الأخبار الحزينة، ولكن غير المفاجئة، فهو التقرير الدولي الذي يعتبر مدينة بغداد الأسوأ للمعيشة فيها من بين 221 مدينة أخرى. المعلومة ليست غير متوقعة ولا مستغربة، ولكنها مع ذلك صدمة. إنها شهادة جديدة عن quot;المنجزات الكبرىquot; لحكومة المالكي وحلفائه الائتلافيين، في كل الميادين: نزاهةً [ فلا فساد!!]، وخدماتٍ [ الكهرباء غير المنقطعة ليل نهار للمواطنين!!]، وأمنا [ لا تفجيرات ولا اعتقالات عشوائية ذات نفس طائفي وانتقامي!!]، ومكافحةً للطائفية[ لا زيارات مليونية تنظمها الدولة وتعطل بسببها المدارس والدوائر الحكومية!!]، ورعاية للأرامل واليتامى والمشردين، وحرصا على الوحدة الوطنية، وتمسكا بالسيادة في وجه العدوان المائي والمدفعي الإيراني - التركي. وماذا بعد؟!!!
****
هل عن يوم quot; ألوفاءquot;؟؟ ألم نر المزايدات باسم الوطنية بين كافة الساسة، وما عدا أقلية، مع أن بين الرافعين أصواتهم لعدم بقاء قوات أميركية هناك من يشعرون مع أنفسهم بالقلق لما بعد الانسحاب خوفا من تصفيات سياسية، ومن الهرولة نحو الدكتاتورية الحزبية، ومن مزيد من قمع الحريات وحقوق المواطنين ومن الاعتقالات المرتجلة، والترويج المسمر لفزاعة quot; المؤامرةquot; التي ينفخ فيها هوس السلطة المقرون بهوس المال، مقرونين بالشك الدائم الواحد في الآخر.
سأعود للموضوع في مقال تال، ولكنني أجد نفسي منساقا للتساؤل بمناسبة الانسحاب الأميركي التام مع نهاية العام: من المسئول الأول عن محاصرة الإمام الشهيد الحسين ومن معه والتنكيل الوحشي بهم: هل الجلادون الآثمون وحدهم، أو قبلهم هم أولئك الذين دعوا الحسين للعراق، ثم نكثوا بالوعد ومارسوا الغدر، أي من بين أهل العراق أنفسهم؟!! ولعل بينهم من هم الأجداد البعيدون، البعيدون جدا، لبعض من يشقون الجيوب اليوم في عاشوراء، ويلطمون على الصدور ويشجون الرؤوس!! وقد قرأت بتفهم تام مقابلة إيلاف منذ أيام عن موضوع الانسحاب الأميركي وعن شعور الأميركيين بعدم وفاء العراقيين لهم. وتحضرني بالمناسبة مقولة تشرشل، التي يذكّرنا بها دوما الكاتب الصديق، الدكتور عبد الخالق حسين،: quot; العراق! يا له من بركان ناكر للجميل!!quot; وقد كان من بين أصدق ما قرأت، يوم أعلن المالكي أفراح quot;العيد الوطنيquot; بمناسبة مغادرة القوات الأميركية للمدن العراقية طبقا للاتفاقية الأمنية، ما ورد في مقالٍ عراقيٍ متميز يقول:
quot; يبدو أن السيد المالكي وكل القادة العراقيين الجدد نسوا أنه لولا القوات الأميركية التي أسقطت لهم حكم الفاشيست، لكانوا مشردين في الشتات ولم يسمع بهم أحد!quot;
ولنا عودة..
إيلاف في 10 ديسمبر 2011