هل من حلول للمأزق العراقي الذي توقفنا مليا لدى أعراضه، والذي يشكل مجمّع أزمات مترابطة؟
قبل ذلك، ماذا كان البديل المطلوب محل النظام السابق؟ لقد كان المطلوب الانتقال لبناء دولة ديمقراطية، برلمانية، علمانية، لامركزية، مع فيدرالية لإقليم كردستان؛ دولة المساواة، والحرية، وحقوق المواطن وحقوق المكونات المتعددة، والدستور العصري الذي يضمن ذلك. وكما كتبنا، منذ ما قبل السقوط وبعده، وعشرات المرات، فإن تحقيق ذلك الهدف الإستراتيجي الكبير لم يكن ممكنا بين عشية وضحاها، خصوصا بعد ما خلفه النظام الدموي السابق من تركات موجعة وثقيلة. أما ما حدث، وبعد عشر سنوات، فهو مسار عكسي، كما تناولناه، خصوصا لأن الطاقم السياسي الحاكم قد برهن على أنه لم يكن أهلا لتحمل المسؤولية لما حملته الأكثرية فيه من عقليات وتقاليد وأفكار هي بالضد من أسس ومفاهيم ومقومات الدولة المنشودة. ويقر الدكتور عادل عبد المهدي، وهو أحد من تسلموا مسئوليات كبرى، في تصريحات له لصحيفة الشرق الأوسط [18 يوليو 2011]، بخطأ المحاصصة، ويقول quot; مازالت العقلية والممارسة الاستبدادية والأمنية أقوى من حرية الرأي. نستهلك عشرات [ بل مليارات ndash; عزيز] الدولارات بسبب ترهل الدولة وفسادها وسطحية خططهاquot;، علما بأن للدكتور عادل كفاءات لا ترقى لها مستويات بقية زعماء الأحزاب الإسلامية الحاكمة. وكان يمكن أن نضيف، بجانب الاستبدادية والهوس الأمني، هوس الانتقام والثأر، كما مثلا في حالتي أحكام الإعدام على طارق عزيز وسلطان هاشم.
ما الحل؟ هل الانتخابات الجديدة، كما تطالب قوى سياسية علمانية؟
لا أعتقد أن أية انتخابات برلمانية جديدة ستكون ذات نتائج أفضل. لماذا؟
إن قانون الانتخابات هو نفسه، والأحزاب الإسلامية، وخصوصا حزب الدعوة، مهيمنة على الأمور، بل إن رئيس الوزراء يحتكر كل المناصب والعتلات الأمنية والهيئات المسماة quot; مستقلةquot;، ومنها مفوضية الانتخابات؛ وشخصيا لا اعتقد أن المالكي وحزبه مستعدان لإجراء انتخابات حرة تماما، أو القبول بنتائجها إن جاءت لغير ما يريدان. وقد برهن السيد رئيس الوزراء على تعطش حاد للسلطة ولاحتكار مفاتيحها مهما كلف الأمر. وها هو يتقدم بمشاريع قوانين لخنق حرية التظاهر والإعلام، بعد أن شن عدة حملات على تظاهرات سلمية.
هل الحل هو في تعديل الدستور، كما يجيب ساسة آخرون؟ ولكن من سوف يعدله ما دامت القوى المهيمنة على الحكم ترفض ذلك؟! ثم ما هي المواد الواجب أن يعاد النظر فيها؟ هل ما يخص إخضاع القوانين لأحكام الشريعة، أو إنشاء الأقاليم؟ لم أسمع عن جهة سياسية تطالب بالأول، وأعرف أن الأحزاب الكردستانية والشيعية ترفض الثاني. إذن ما هو مدار البحث؟ إنه موضوع الصلاحيات، وهو يجابه بمعارضة كردستانية حادة، وكذلك الشأن مع تقسيم الثروات الوطنية.
وهناك اقتراح سبق أن تقدم به، منذ سنوات أربع أو خمس، مثقفون عراقيون ديمقراطيون، تحت عنوان quot; تأجيل الديمقراطيةquot;، ويقضي ب:
- تعليق البرلمان والعملية السياسية [ ومنها الانتخابات]؛
- تشكيل مجلس إنقاذ من ضباط عسكريين أكفاء، غير منتمين لأية جهة سياسية، لتحمل مسئولية أمن العراق بمساعدة القوات الأميركية؛
- تشكيل حكومة تكنوقراط وطنية مصغرة، من أصحاب الاختصاصات والكفاءات والمستقلين، واختزال عدد الوزارات إلى 12- 15 مثلا، تقوم بمهمات تحسين الخدمات والدبلوماسية والاقتصاد والإشراف على عمل المجلس العسكري- أي تكون حكومة انتقالية لفترة محددة تقوم خلالها، مع المجلس، بضمان الأمن الداخلي وضبط الحدود وتقوية القوات المسلحة والأمنية وتطهيرها، ومن ثم تقوم بالتهيئة لانتخابات برلمانية وانتخابات المحافظات، بدون تسرع، ووفق قانون انتخابي ديمقراطي. وخلال الفترة الانتقالية يتم تعليق الدستور الدائم والالتزام بالدستور المؤقت السابق، مع اختيار هيئة قانونية وسياسية مستقلة لوضع مشروع لدستور دائم جديد، على مهل، و تؤخذ فيه آراء مخلف القوى السياسية والاختصاصيين.
وبالمناسبة، فإن فكرة حكومة تكنوقراط مؤقتة سبق أن طرحناها عدة مرات منذ 2005، أو قبل ذلك.
والآن، هل هذه الاقتراحات عملية رغم جدوى الأخذ بأكثر عناصرها؟ كلا بالطبع لأن الطاقم السياسي الحاكم والتدخل الإقليمي، الإيراني خاصة، يجعلان ذلك مستحيلا.
ماذا إذن؟ في رأيي، أنه لم يبق غير حث القوى الوطنية المؤمنة بمبدأ المواطنة والديمقراطية وبفصل الدين عن السياسة لكي تحاول كبح خلافاتها لتعبيد الطريق نحو تكتيل للجهود والمساعي، والقيام بمختلف الضغوط السلمية الممكنة على الحكومة لوقف المسيرة الجارية نحو الاحتكار والاستبداد ودولة الفساد، والقيام بتحسين الخدمات، ومكافحة الفساد، وبحل المليشيات العابثة والمسيرة إيرانيا، ومقاومة التدخل الإيراني، وتقديم الشكاوى لمجلس الأمن على العدوان الإيراني المستمر على قرى كردستان ومياه العراق. ومن المهم أيضا التحلي بالجرأة السياسية للمطالبة ببقاء قوات أميركية محددة لغرض التدريب وللمشاركة أيضا في صيانة أمن العراقيين والحدود والأجواء. ولا يقل العمل الإيضاحي والتنويري للقوى السياسية الحصيفة أهمية عما مر، وأعني حملات لتثقيف الشارع العراقي ضد الطائفية والتقوقع الفئوي، وبمبدأ المواطنة، والممارسات الديمقراطية، ورفض العنف، والدعوة للتسامح، والتسامح لا يعني التساهل مع الجريمة والإرهاب والفساد، ولكنه يعني ضد نزعات الإقصاء والاجتثاث والثأرية المنفلتة. وألاحظ نردد بعض قوى اليسار في التأكيد على، والتثقيف ب، مبدأ العلمانية بحجة أنه قد جرى تشويهه وأسيئت سمعته بين المواطنين؛ غير أن هذه حجة متهافتة لو كان هذا هو السبب الحقيقي [؟؟] لأن اسم الديمقراطية نفسه قد جرى تشويهه أكثر من جانب الأحزاب والأنظمة المستبدة في العالم وليس فقط في العراق والمنطقة. المطلوب أن يجري الكلام بجرأة ووضوح عن العلمانية وما تعنيه من مساواة أمام القانون- بصرف النظر عن العرق والجنس والدين والمذهب- ومن تضامن، وتسامح، وروح تجميع لا تفريق، ومن حريات دينية واسعة للجميع. أما إقحام الدين في السياسة وشؤون الدولة، وتحت أية ذريعة، وبأية صيغة، فهو طريق الدولة الدينية الشمولية. نعم، لا ديمقراطية مدنية مع دستور أحكام الشريعة، ومع تدخل المرجعيات الدينية في صميم وتفاصيل شؤون الدولة والسياسة.
ومن المطالب الآنية المعقولة أيضا رفض إعدام العسكري النزيه سلطان هاشم، ومنع نقل سكان أشرف لبقية أنحاء العراق، حيث ستتم تصفيتهم على وجبات، والمطالبة، بدل ذلك، برفع الحصار عن المعسكر والإلحاح على الاتحاد الأوروبي وإدارة أوباما لاستقبال هؤلاء اللاجئين العزل، الذين عانوا كثيرا من بطش حكومة المالكي بالتنسيق مع فيلق القدس.
إن تكاتف القوى الوطنية العلمانية هو من مستلزمات الساعة، وإن استغلال منافذ الحرية والعمل السلمي للضغط على الحكومة واجب من الدرجة الأولى لتعبئة المواطنين ولتحقيق ما يمكن من إصلاحات مهما كانت جزئية. إن هذا، لو تم، هو بصيص الأمل الوحيد في هذا الوضع المظلم المكفهر، الذي انفلتت فيه نزعات الهيمنة والاستحواذ والإقصاء، وتفاقم التدخل الإيراني بعدوانه المكشوف، وحيث تبلبل، وتعثر، وتردد إدارة أوباما، وحيث الاحتمالات الخطرة في العالم العربي والمنطقة، وإذ قد يشتعل التنافس على العراق إقليميا، بعد الانسحاب الأميركي، ويصبح ساحة صراعات إقليمية ودولية وتصفية حسابات.
أجل، إن الصعوبات كبرى في وجه القوى الوطنية العلمانية، والشارع العراقي، برغم تحركه النسبي منذ شهور، لا تزال أغلب شرائحه تحت هيمنة الإسلام السياسي المنغلق.
إن الوضع قاتم، والأخطار القادمة قد تكون أكبر وكارثية.
تلكم أفكار أطرحها بكل حس وطني، وحسب رؤيتي لما يجري، وعلى ضوء تجاربنا الوطنية والتجارب الإقليمية والدولية، وكذلك تجربتي السياسية- التي رافقتها أخطاء ومنزلقات فادحة- سبق وأن أوضحتها بكل صراحة في مقالاتي وكتبي - رغم نبل النوايا و الأهداف. إن حسن النية، ونيل الهدف لا يكفيان كمواصفات للسياسي الناجح، ناهيكم عن الحكام، وإذا كان جيلي قد ناضل وأخطأ كثيرا ولكن بروح نكران الذات، وبلا بحث عن المغانم، فكيف عن ساسة راح معظمهم، وقد تسلموا السلطة، يتسابقون في الإثراء على حساب خدمات المواطن، ورزقه، وحرياته، وحقوقه، وكل يعمل لحزبه، وطائفته، وعرقه، وشخصه على حساب مجموع الشعب والبلاد؟!