كما لا يستحق العراق أن يتحول لمقابر لبناته وأبنائه، مثلما حدث في عهد النظام المنهار، فإنه أيضا لا يستحق أن يغدر بعض أبنائه بضيوف لجئوا إليه للحماية من البطش والموت، ووفقا للقوانين والاتفاقيات الدولية المعتمدة.
هذه ليست المرة الأولى التي نكتب فيها عن مأساة معسكر أشرف بلاجئيه الذين يصل عددهم لحوالي3300 أو أكثر، بينهم حوالي ألف امرأة. أما اليوم، وقد اقترب موعد تنفيذ الخطة الإيرانية كاملة لتصفية المعسكر بكل وسيلة، فإن الكتابة عن الموضوع باتت في مقدمة مهمات كل مواطن عراقي واع ، وخاصة كل مثقف وطني وديمقراطي حريص على شرعة حقوق الإنسان وحقوق اللاجئين وعلى سمعة بلده، وسواء كان مع حكومة المالكي أو بالعكس.
إن موعد نهاية السنة هو الذي حددته الحكومة - بلسان السادة رئيس مجلس الوزراء ووزير حقوق الإنسان ووزير الخارجية- لتشتيت سكان المعسكر في أنحاء معينة من العراق وتسليم فريق منهم لإيران، حيث يشحذ جلادوها منذ الآن خناجرهم لنحر كل من يتسلمونه من هؤلاء اللاجئين، العزل من السلاح.
منذ نقل مهمة الإشراف على المعسكر للحكومة العراقية، والحجج تساق الواحدة بعد الأخرى لتنفيذ حملات دموية ضد سكان العسكر. جرى ذلك عام 2009؛ ثم من جديد عام 2010، وما حصل خلال الحملتين من قتل العشرات وجرح المئات من اللاجئين، وخطف العديد- ناهيكم عن منع الغذاء والدواء عنهم ومحاصرتهم بالغوغاء، بل بما يشبه quot; الشبيحةquot; من عشائريين وعناصر إيرانية من فيلق القدس لشن حرب سيكولوجية ضد المعسكر ليل نهار.
قيل عام 2009 إن اللاجئين عارضوا فرض الأمن العراقي، وتبين أن الرواية كانت بلا أساس. وقال بعض أفراد quot;الشبيحةquot; العراقية من العشائر -[ عشائر الإسناد التي وجدنا مثلها في ساحة التحرير أيضا ببغداد، ولكن بلا بعران كما حدث في ميدان التحرير بالقاهرة!]- إن أراضي المعسكر ملكية خاصة لهم، وتبين أن ذلك محض كذب وان تلك الأراضي أميرية، أي ملك الدولة. وبعد الانتخابات الأخيرة وظهور النتائج لغير صالح قائمة دولة القانون، زعموا أن سكان أشرف هم من تلاعبوا بالنتائج!! وقديما قيل: quot; حدث العاقل بما يعقل!quot;
إنني هنا لا أعالج القضية سياسيا، بل من النواحي الإنسانية ومن جهة القانون الدولي. فلنترك الاعتبارات السياسية جانبا لأنها لا ينبغي أن تقحم في مجالات حقوق الإنسان وحقوق اللاجئين- وعلما بأن هناك روايات متعارضة تماما عن ممارسات مجاهدي خلق في العراق: هل حقا ساهموا في قمع الانتفاضة العفوية في بداية التسعينات في العراق؟ أم انتهزوا فرصة الحرب العراقية الإيرانية- قبل ذلك - لشن عمليات داخل إيران، كما فعلت المليشيات الشيعية العراقية داخل العراق؟ وسبق للسيد إياد جمال الدين أن أكد أنه اطلع على كمية كبيرة من وثائق النظام السابق بعد انهياره، ولم يجد أية إشارة لمشاركة مجاهدي خلق في أعمال قمع للعراقيين. ومهما يكن، فقد نزع هؤلاء سلاحهم، وسلموه للقوات الأميركية التي تعهدت بحمايتهم وضمان حقوقهم. وخلال سنوات الإشراف الأميركي لم تبدر من سكان المعسكر أية بادرة لانتهاك الأمن العراقي أو التسلل لتنفيذ عملية ما داخل إيران. وكيف يمكنهم ذلك وهم عزل من السلاح ومحاصرون، والمعسكر هو أشبه بسجن كبير؟!!
لقد تساءل الأستاذ أحمد مطر في 25 أغسطس 2009، بعد الجرائم الحكومية الأولى ضد سكان المعسكر ما بين قتل وجرح وخطف، لماذا كان المعسكر هادئا أمنا في ظل وجود القوات الأميركية، وما أن تسلمت حكومة السيد المالكي الإشراف عليه بعد الانسحاب الأميركي من المدن، حتى تغير الوضع وتحول المعسكر بقدرة قادر إلى منتهك لأمن العراق والعراقيين، وموضوعا في قفص الاتهام؟؟!!!
من المؤلم أن الحكومة انصاعت للضغوط الإيرانية الكثيفة، سواء في موضع أشرف أو في موضوع التمديد لبقاء بعض القوات الأميركية في العراق. وكان هذا واضحا جدا على الأخص عند زيارة السيد وزير الخارجية لطهران في منتصف عامنا هذا.
لقد تراجع البرلمان والاتحاد الأوربيان عن اعتبار منظمة مجاهدي خلق إرهابية. وفي الولايات المتحدة شخصيات كثيرة من مختلف الاتجاهات تطالب إدارة أوباما باتخاذ قرار مماثل، ولكن أوباما لم يستجب لكيلا يغضب إيران، مثلما صمت عام 2009 عن القمع الوحشي لانتفاضة الشعب الإيراني وعن الحملة الدموية على سكان أشرف في العراق.
إن موعد نهاية السنة ليس موعدا قدسيا، والقضية ليست قضية مصير حاسم للعراق حتى يتم الحل المتسرع والمعد سلفا لتصفية المعسكر وبدون الاتفاق المسبق مع الأمم المتحدة ومع الجانب الأميركي. وبعثة الأمم المتحدة قد أصدرت للتو بيانا دعت فيه:
quot; إلى حماية سكان المعسكر من عمليات الترحيل والطرد وإعادة التوطين القسرية.quot; وأضاف البيان بأن البعثة ستستمر في البحث عن حل سلمي دائم للمسائل المتعلقة بالمعسكر بما يتفق مع القانون الإنساني الدولي، وإنها تسعى للحصول على دعم المجتمع الدولي في جهودها.quot; فلماذا لا يصبر السيد المالكي حتى تتكلل جهود الأمم المتحدة بالبحث عن الحلول الناجعة وسلميا، وأن يتعاون مع المجتمع الدولي لتجنب إراقة الدماء مرة أخرى، وأن يمتنع عن تسليم أي من سكان المعسكر لإيران؟؟ نعم لماذا هذا الإصرار والاستعجال والانفراد بالحل، الذي لن يكون إلا دمويا وبما يسئ لسمعة العراق دوليا؟؟ ألا تكفي العراق ما حلت به، وتحل، من مصائب، وما نزلت بسمعته الدولية من ضربة قاصمة لتحوله لمقدمة دول الفساد ومن دول الاعتداء على الصحفيين، فضلا عن تدهور الخدمات والصراعات السياسية التي لا تنتهي؟؟!! هل وجود لاجئين عزل، بلا سلاح، ومحاصرين، مقطوع عنهم حتى الدواء والعلاج، هو الخطر على سيادة العراق وأمنه أم العدوان الإيراني المتكرر على أراضينا، وتجفيف مياهنا بما سوف يجعل من وادي الرافدين بلدا متصحرا بعد عقود قليلة من الآن فلن يبقى هناك الرافدان كما كانا على مدى الزمان؟؟!!
إن الحل الحكومي السلمي والمتأني للمعسكر، وبمشاركة فعالة ومستمرة من الأمم المتحدة والجانب الأميركي، سيكون لصالح العراق، وليس من مصلحة أي وطني عراقي أن تنفذ حمامات دم جديدة لهؤلاء العزل، وذلك مهما كانت التحفظات حول مواقفهم أو أفكارهم، فالقضية هنا إنسانية بحتة. ونعرف أن الكثيرين من ساسة العراق وحكامه كانوا يوما ما لاجئين للغرب، فوجدوا كل الرعاية والأمان حتى وإن كانوا يمارسون المعارضة من هناك. فكيف وسكان المعسكر لا يقومون بأي نشاط سياسي خارج المعسكر الذي هو محاصر؟؟ لماذا لا يتعلم حكام العراق من تجارب اللجوء للديمقراطيات الغربية؟؟
عندما اقتحمت القوات الحكومية ومليشيا بدر المعسكر في تموز 2009 وفتكوا بالعشرات، وخطفوا، وجرحوا المئات، أدلي السياسي المعروف السيد إياد جمال الدين بتصريحات، قال فيها:
quot; هذا يوم محزن في تاريخ العراق أن أناسا لاجئين بذمة العراق وبشرف العراق أن يُعتدى عليهم، ويقتلوا وهم بضمانة الحكومة العراقية التي تعهدت بحفظ سلامتهم وأمنهم وكرامتهم. اللغة تعجز عن التعبير عن مدى الحزن والأسف لما حدث من هجوم شرطة الشغب على أناس لا يمتلكون سلاحا وإنما هم لاجئون وفق المواثيق والمعاهدات الدولية. وأنا أهيب بالسيد رئيس مجلس الوزراء وبالحكومة العراقية أن تتلافى الموضوع وأن تعتذر لهؤلاء لأن في اعتذار الحكومة حفظا لكرامتها ولسمعة العراق الدولية. نحن نسعى لنكون دولة القانون، ولا يمكن لدولة القانون أن تعتدي على لاجئيها. هذا لا يحدث في بلاد مثل أوروبا وغيرها. ولذلك أقول إن اعتذار الحكومة هو حفظ لسمعة العراق ولسمعة العملية السياسية، ولسمعة الحكومة بشكل إجمالي، كما نطالب بإطلاق سراح السجناء.quot;
تلك المناشدة الكريمة والموضوعية ظلت بلا أذن صاغية، بل جاءت الحملة الثانية، وصولا إلى موعد التصفية النهائية بعد أسابيع.
نعم، الموضوع هنا إنساني، ولا ينبغي خضوعه لاعتبارات سياسية، ناهيكم عن الخضوع لإرادة الثأر والقتل الإيرانية. وأعتقد أن من واجب الساسة والبرلمانيين الوطنيين والديمقراطيين العراقيين أن يضعوا هذا الموضوع في رأس اهتمامهم الآني، وقبل فوات الأوان- أي العمل لحل القضية على مهل حلا سلميا، وبلا إرغام وعنف وإملاء، وبالتعاون مع المجتمع الدولي. وأرى أن المثقفين الوطنيين العراقيين، حتى من بين بعض الذين يتعاطفون مع السيد المالكي، مدعوون، في هذا اللحظات الحرجة، ليقولوا كلمتهم المنصفة بالتحذير والنصح للمسئولين.
وأخيرا، فإنها أيضا مهمة الرأي العام الدولي والحكومات الغربية، والأميركية خاصة. كما هي قضية إنسانية يجب أن تشغل باب كل المثقفين الديمقراطيين العرب الحريصين على حقوق الإنسان في كل مكان.
إيلاف في 22 نوفمبر 2011