الآن وقد ظهرت نتائج الانتخابات في عدد من دول ما يدعى بالربيع العربي، واعني انتصار الإسلاميين، والإخوان خاصة، فلابد من وقفة تأمل هادئة لتقليب الأمور والأحداث، وكيف انتهت لحد اليوم، وما الاحتمالات الأكثر رجحانا للتطورات اللاحقة برغم تعذر التوقعات الدقيقة لمسار الأحداث اللاحقة.
لقد كانت الآمال معلقة على تونس أكثر من سواها لما كانت تتمتع به من نخبة مثقفة متقدمة وعلمانية، ومن حقوق واسعة للمرأة. ولكن ها هي الأنباء، بعيد الانتخابات، تنذر، كما أرى، بأيام كالحة قادمة. فقبل فترة قصيرة، صرح زعيم من quot;النهضةquot; بأن quot; العناية الربانيةquot; قد أهّلت تونس لتكون قاعدة لقيام quot; الخلافة الراشدة السادسةquot;. ورغم محاولات quot;النهضةquot; فيما بعد التلطيف من هذا التصريح، فإنه قد كشف عن حقيقة النوايا وحقيقة الأهداف التي يضمرها إسلاميو تونس؛ مثلما سبق لزعماء إخوانيين في مصر أن كشفوا عن حقيقة أهدافهم بالحديث عن quot; إقامة الحد quot; عند quot; تملك الأرضquot;، وصمتهم عن ممارسات السلفيين الهائجين وعدوانيتهم لاسيما ضد الأقباط. وها هم يلوحون بإمكان التحالف معهم بعد الفوز في الانتخابات.
في تونس، تتحدث آخر الأنباء عن قيام ما يسمى بquot;هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرquot;. وكانت الضحية الأولى جامعية معروفة منعت من تولي وظيفتها في إدارة إذاعة الزيتونة. كذلك هجوم السلفيين على إحدى الكليات واشتباكهم مع الطلبة.quot; [ انظر تقرير مجدي الورفني من تونس في إيلاف بتاريخ 29 نوفمبر 2011 ].
هكذا بدأت تظهر في تونس الخضراء، بعد إزاحة الحكم السابق، ظاهرة حشود أصحاب اللحى الطويلة والقمصان الطالبانية والاعتداء على الطالبات والطلبة، والطلب من الأستاذات الجامعيات الالتزام بلبس زي quot; شرعيquot;؛ ومنهم من راح يخطب في الكليات مطالبا بتطهير المؤسسات الجامعية من العلمانيين، quot;جيل الاستعمارquot;- على نحو ما تروي آمال قرامي من تونس في مقالتها quot; لا خوف بعد اليومquot;. فهل استنكر حزب النهضة هذا الإرهاب الفكري والاجتماعي؟ لم نسمع عن ذلك؛ فما يربط جميع الإسلاميين هو كراهية العلمانية، وازدراء المرأة، ورفض مبدأ المواطنة والمساواة في النظرة لغير المسلم.
كما نعرف أن أول إجراء اتخذه حكام ليبيا الجدد، الذين نرى بينهم دورا كبيرا لزعماء إسلاميين- من إخوان ومن قريبين للجهاديين- هو إلغاء القانون الذي كان يحظر تعدد الزوجات. فموقف التمييز تجاه المرأة ومن غير المسلمين هو موقف مشترك بين جميع فصائل الإسلاميين، من سلفيين وجهاديين وإخوان مسلمين.
في الإعلام العربي هذه الأيام مقالات كثيرة تتحامل على كل من ينبه لخطر صعود الإسلاميين، ومنهم من كتب أن هذا ما يخدم إسرائيل ولمصلحتها!!! ومنهم من قال فلنجربهم. ومنهم من كتب أن الأحزاب الإسلامية عندنا هي مثل الأحزاب ذات العنوان الديني في الغرب، والحال أن الأحزاب الأخيرة[ ومنها حزب ميركل في ألمانيا] تطبق في الحكم كل المبادئ الديمقراطية المعتمدة، ولا تقحم الدين في شؤون الدولة، وهو عكس ما يفعله الإسلاميون من أحزاب وكتل، شيعة وسنية. إن مرجعية الأحزاب الغربية تلك هي مبادئ العلمانية والديمقراطية التي تقوم عليها الدول الغربية، في حين أن أحكام الشريعة هي مرجعية الأحزاب الإسلامية في المنطقة، وخاصة ما يخص المرأة وغير المسلمين. وسبق أن توقفنا عند هذا الموضوع في أكثر من مقال. ولكن نقول ثانية إن التنبيه والتحذير، وعلى ضوء كل التجارب السابقة، هو واجب وليس اتهاما عبثيا، أو دعوة لمحاربة هذه الفئة أو تلك، أو للتشكيك في نتائج الانتخابات الجارية، أو دعوة لحرمان الفائزين من استحقاقاتهم الانتخابية.
إن سياسات وممارسات الأنظمة المستبدة والفاسدة هي المسؤولة الأولى عن صعود الإسلاميين هذا، الذين استخدموا الانتخابات كأداة ديمقراطية للهيمنة على البرلمان، ولا حقا على السلطة، ولكن من دون تطبيق مبادئ الديمقراطية القائمة على المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان.
ما أريد الإشارة الخاصة إليه هنا، في هذا المقال، وبكل صراحة، هو أية ديمقراطية يساندها بعض الحكام العرب الخليجيين [ الذين لهم الصخب والفعل الأقوى في المحافل الدولية والعربية] في دول الانتفاضات ؟؟ لو كان الهمّ هو الديمقراطية والدولة المدنية القائمة على مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، وهو ما يشغلهم، فلماذا التركيز على دعم الإخوان وبقية الإسلاميين أولا، ماليا وإعلاميا ودبلوماسيا؟؟ ولماذا هذا الصمت عما يقترفه الإسلاميون اليوم في مصر وتونس وليبيا [ وما قد يقترفون مثله غدا في أي بلد عربي يهيمنون على مقدراته]؟؟
هذه الأسئلة موجهة أيضا لأردوغان والوزير العثماني أوغلو، صاحبي الاستعراضات الخطابية وقرقعات التهديد لهذا الحاكم العربي المستبد أو ذاك! والموضوع التركي مهم ما دام الحديث الرائج هو عن ما يسمى بالنموذج الإسلامي التركي quot;المعتدلquot;، والذي يدعي كل فرع إخواني عربي أنه يريد الاقتداء به، في نسيان لظروف نشأة تركيا الحديثة في العشرينات، في عهد أتاتورك،الحاكم العلماني وصاحب التجربة الجريئة.
فالحزب الحاكم في تركيا ينقصه الكثير ليدعي أنه ديمقراطي ونموذج للديمقراطية يقتدى به.
هل ننسى وضع الشعب الكردي في تركيا، المحروم من حقوقه الأولية؟ هل ننسى كيف كان أول رد فعل لأردوغان على أثر الهزة الأرضية التي ضربت مدينة quot;وانquot; والقرى التابعة لها في شمال كردستان تركيا؟ لقد قال: quot; إن على الذين يرجمون العسكر التركي بالحجارة أن يمدوا يد المساعدة إليهمquot;، أي للمنكوبين!- في إشارة لحزب السلام والديمقراطية الكردي الذي كان قد فاز في انتخابات المنطقة. وبالمناسبة، فلسنا ممن يؤيدون الكفاح المسلح لحزب العمال الكردستاني داخل الأراضي التركية، ونرى أن هذا الأسلوب من الكفاح يؤذي مصالح الشعب الكري في تركيا ويبعد عنه الأصدقاء والحلفاء. ونذكر في الوقت نفسه أن حقوق القوميات والأقليات القومية هي من صميم الديمقراطية. ومن يريد أن ينصب نفسه معلما للآخرين في الديمقراطية ، فإن عليه أن يبدأ بتعليم نفسه ليكون القدوة والمثل؟؟ وماذا عن أوضاع الصحافة والصحفيين، الذين يتعرضون للمضايقات المستمرة في تركيا؟؟ وماذا عن أحوال المسيحيين وكنائسهم وقسسهم، وكذلك التضييق على العلويين؟؟
يقول مؤلف الكتاب الفرنسي quot;الإسلام مجازفا بالديمقراطيةquot;، الصادر للتو، لمؤلفه [ كلود سيكارد]، إن من المؤكد أن المسيحيين في تركيا يتعرضون لحد اليوم إلى التمييز، وإن الهوية الشخصية لا بد وان تسجل دِين حاملها .[ ص 210 من كتاب Lrsquo;islam au risque de la deacute;mocratie- par Claude Scicard
ويقول المؤلف إن كون الشخص مسيحيا لا يسهّل له الأمور، وهناك قسس يجري اغتيالهم كما حدث للأب سانتورو عام 2006، ولرجل الدين البارز بادافوز، راعي إبريشية الأناضول، عام 2010 . وقد أدان الفاتيكان ما يعتبره quot;كراهية المسيحيةquot; في تركيا، [مسيحيفوبيا].
وأظهرت دراسة عالم الاجتماع التركي بيناز توبراك عام 2008 الضغوط التي يتعرض لها كل من لا يعترف بالهوية الإسلامية السنية، وهي الهوية الغالبة في تركيا. ويشير هذا العالم إلى فشل الحزب الإسلامي المحافظ الحاكم، quot;العدالة والتنميةquot;، في تشجيع التسامح ورعاية الحريات الفردية، ويقول إن بين من استجوبهم العديد من أعضاء الحزب الجمهوري المعارض، الذين أكدوا له أنهم مجبرون على تكييف سلوكهم يوميا للحفاظ على مصالحهم. ويعيد مؤلف الكتاب التأكيد، مرة بعد مرة، على أن المسيحيين والعلويين هم الأكثر تعرضا للتمييز ولضغوط الأحياء السكنية.
أقول إذن: ألا يحق مخاطبة أردوغان وبعض حكامنا الخليجيين- في قطر خاصة- كثيري الحركة وشديدي الحماس الصاخب باسم الديمقراطية والحرية:
quot; حسنا ما تفعلون من إدانة المستبدين والطغاة من العرب، وإعلان التضامن مع الشعوب المنتفضة عليهم، ولكن لا تنسوا أن عليكم أولا القيام بإصلاح بيوتكم قبل أن تكون لكم مصداقية التوجيه والإرشاد والرعاية. أما اعتبار حكم الإسلام السياسي هو الديمقراطية، فهذا ما لا تبرهن عليه لا التجارب المريرة السابقة ولا ما يحدث اليوم في دول الانتفاضات quot; المنتصرةquot;. كما لا نفهم كيف أن نظاما كنظام السودان الإسلامي، مؤهل لإعطاء الدروس لطاغية كحاكم سوريا بينما نعرف كيف قتل النظام السوداني عشرات الآلاف من سكان دارفور وكيف جرت عمليات اغتصاب جماعية للنساء هناك، مما جعلت محكمة الجزاء الدولية تدن الرئيس السوداني وتطلبه للمحاكمة؟!! أطاغية يعلم طاغية كيف يكون ديمقراطيا؟!!
نعم، إن مصلحة الشعوب العربية المنتفضة وغيرها تستدعي دعم النضال ضد الاستبداد والفساد، وفي الوقت نفسه نشر الوعي بمبادئ الديمقراطية وقيمها وفلسفتها، وخاصة في الموقف من المرأة وحقوق الأقليات الدينية والقومية، وفي التسامح، ونبذ نزعات الاحتكار والاستئثار والإقصاء، والتمسك بتداول السلطة سلميا. وهذه مبادئ وقيم لم يثبت أن الإخوان وغيرهم من الإسلاميين قادرون على هضمها وتطبيقها. وكما قال زعيم الإسلاميين التونسيين نفسه، فإن الديمقراطية عندهم هي quot;أداة وليست فلسفةquot;ـ أي أداة للوصول للسلطة والبرلمان وليست فكرا حداثيا ومفاهيم العصر الديمقراطية.
يبقى سؤال عما إذا كان الأفضل للأحزاب والكتل والشخصيات اللبرالية الديمقراطية الدخول في ائتلافات حكومية مع الإسلاميين أم إن ذلك موقف غير سليم ومن شأنه أن يتحولوا إلى مجرد مظهر وغطاء للانتقال التدريجي إلى نظام إسلامي، فيتحملون هم قسطا كبيرا من المسئولية؟؟ وبعبارة أخرى، هل هو اختيار المعارضة أم المشاركة في حكومات لا يمكن إلا أن يلعبوا فيها أدوارا ثانوية؟؟ طبعا لكل بلد ظروفه، والقوى السياسية لكل بلد هي التي تقرر ما تراه الموقف الصحيح.