بعد أيام ستكون الدورة الاولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، والمرشحون عشرة، ولكن أصحاب الدعم الشعبي[ بدرجات] منهم هم المرشح الاشتراكي هولاند، ومرشح الحزب الديجولي سركوزي، [وهما الأكثر حظا]، ومرشح يسار اليسار الشعبوي ميلانشون، ومرشحة اليمين الشعبوي مارين لوبين، ومرشح ما يدعى بالوسط فرانسوا بايرو. أما المرشحون الآخرون، فلا تدل الاستطلاعات على وجود تأييد يذكر لهم، وبينهم تروتسكيان.
لا يتسع هذا المقال لغير ملاحظات مركزة أو رؤوس نقاط لا يمكنها أن تحيط بالموضوع إلا تقريبيا وبإيجاز.
إن الاستطلاعات المتتالية تشير إلى تقارب الأصوات بين هولاند وسركوزي في الدورة الأولى، وإلى نجاح الأول في الدورة النهائية. وهناك هوامش مجهولة، منها ما يخص نسبة الامتناع، ومواقف المترددين الذين لم يقرروا بعد لمن يصوتون، وقد تأتي ثمة مفاجآت عن مواقفهم. كما أن الدورة الثانية قد تشهد مفاجآت عن مواقف ناخبي المرشحين الذين لم يفوزوا في الدورة الأولى وأين ستصب أصواتهم.
ثمة ملاحظات أولية لابد من ذكرها:
الأولى أنه ببدو أن ثمة انعطافا شعبيا نحو اليسار بمختلف مدارسه وتياراته، والدليل الأبرز صعود نجم مرشح اليسار الشعبوي، ميلانشون، الذي لا يكتم إعجابه بشافيز الفنزويلي، بطل الغوغائية اليساروية ومعاداة الولايات المتحدة. وهو يعد بإعطاء هويات الإقامة الفرنسية لجميع المهاجرين غير الشرعيين وعددهم يقدر بعشرات الآلاف وأكثر. ويدعو لمساواة كليانية، متهما الأغنياء بالغنى على حساب الفقراء. والغني عنده نسبي فمن يبلغ دخله 300 ألف يورو سنويا، وهو يمص دم الفقراء. وهذه شريحة قد يدخل ضمنها، عدا رجال الأعمال، فنانون وفنانات وأطباء جراحون لامعون ومحامون مشهورون ولاعبو كرة وأمثالهم. والملاحظ أن صوره أكثر انتشارا من سواه في أحياء بعينها حيث يكثر المهاجرون غير الشرعييين، من صينيين وأفارقة وآسيويين ورومان، كالحي 13 مثلا، حيث صوره الكبيرة موضوعة على الجدران، وحتى على صناديق القمامة الكبيرة.
إن الحدود بين الحزب الحاكم والاشتراكيين شبه متلاصقة بحيث يمكن تقسيم فرنسا بناء على ذلك إلى نصفين متقاربي الفضاء. ولكن إن أضيفت لهولاند أصوات معظم اليسار الشعبوي والبيئة، وربما قسم من ناخبي بايرو، وحتى من أصوات مارين، فعندئذ يختل هذا التوازن. ولكن لا يمكن التنبؤ الدقيق مسبقا بما سيحصل. وهناك معلقون يرون أن قسما من ناخبي مارين قد يصوتون لهولاند نكاية بسركوزي، الذي تركز مرشحة اليمين الشعبوي حملتها عليه قبل الاشتراكيين، وأكثر بكثير.
إن الأبرز في هموم الفرنسيين هو الوضع الاقتصادي والبطالة وأزمة اليورو والعلاقة بالاتحاد الأوروبي. وهناك أيضا مشاكل الأمن والهجرة والتعليم والمرأة وغيرها. وفي معظم المساجلات الانتخابية لم نر دورا مهما للسياسة الخارجية، باستثناء موضوع العلاقة بمنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي.
برنامج الاشتراكيين ذو طموحات كبرى قد تبدو مبالغا فيها إذا أخذنا بالحسبان استمرار أزمة اليورو والأزمة المالية العالمية، وثقل مبلغ العجز والديون الفرنسية. سركوزي جاء للرئاسة عام 2007- أي قبل انفجار الأزمة المالية الأميركية- الدولية بعد عام. ومنذ تلك الأزمة تغيرت معطيات هامة يجب عدم تجاهلها. وكان قد بادر، قبل بقية الدول الأوروبية- لاتخاذ تدابير فعالة للتخفيف من وقع الأزمة على فرنسا، وبفضله لم تقع حتى اليوم في مطبات ساخنة كما وقعت فيها حتى إيطاليا. ولكن الوضع المالي الأوروبي والدولي لا يزال خطيرا.
ويمكن القول أيضا أن سركوزي، وبرغم الملاحظات عنه، يعتبر شخصية دولية، واكتسب في هذا المجال خبرا ومكانة لا يتمتع بهما غيره من المرشحين.
يتجه سركوزي في حملته الانتخابية للمتقاعدين والشباب وفرنسا العميقة quot; التقليديةquot;، داعيا للتوفير في نفقات الدولة وتفضيل السلع والصناعة الفرنسية أولا ثم الأوروبية بعدها، ويذكّر باستمرار بالهوية الفرنسية وتاريخ فرنسا، محذرا من عقدة تأثيم الذات. وهو منذ حملته الانتخابية الأولى يدعو لضبط الهجرة الشرعية [ لا لمنعها]، ولمكافحة الهجرة غير الشرعية لحد إعادة المهاجرين السريين لبلدانهم. كما أنه خلال رئاسته كان يركز على الناحية الأمنية ضد العنف ويدعو القضاء إلى الصرامة وعدم التساهل مع من يكررون الجريمة، وخصوصا جريمة كالاغتصاب. وقد أعاد النظر في قانون 35 ساعة عمل أسبوعيا الذي شرعه الحكم الاشتراكي. ونقل سن التقاعد من 60 إلى 62 سنة. ويذكر انه خلال الفترة الأولى من رئاسته كان شديد الاستعجال، وتتالت الإصلاحات واحدا بعد آخر، الكبير منها والثانوي، ودون شرح كاف للمواطنين. ومن وعوده الانتخابية اليوم الخروج من اتفاقية شانغين الأوروبية التي عقدها ميتران وألغت الحدود بين دول الاتحاد مما سمح بغزو المهاجرين من دول كرومانيا وبلغاريا وغيرهما في وقت ارتفاع البطالة فرنسيا، وكذلك ازدياد خطر تسلل الإرهابيين.
أما فرنسوا هولاند، فهو يقترح في مشروعه خلق 60000 وظيفة معلم جديدة، و1000 وظيفة كل سنة في جهازي البوليس والقضاء، و150000 وظيفة في الضواحي والأحياء المعتبرة شعبية. هناك خبراء ينتقدون هذا البرنامج السخي ويتساءلون من أين ستأتي الأموال مع وجود العجز والديون وأزمة اليورو. الاشتراكيون يجيبون بأنهم سيزيدون الضرائب على الأغنياء [ الغني عندهم من يكسب في السنة مليون يورو وأكثر]. وبرنامجه يطالب بتجميد قرار الحكومة الحالية عن مراجعة المصاريف الحكومية باتجاه تخفيضها. كما يريد العودة لسن 60 سنة للتقاعد بدلا من سن 62 مع أن سن التقاعد في ألمانيا المزدهرة ودول غربية أخرى هي أعلى من 62 سنة. والمحصلة عند هؤلاء الخبراء الناقدين هو أن الدولة سوف تواصل الاستدانة لتغطية النفقات فتزداد الديون والعجز وبما يهدد دخول فرنسا في نفق كالنفق اليوناني، وعدم القدرة على دفع مرتبات الموظفين. والضرائب التي يريد فرضها على الأغنياء ستكون بنسبة 75 بالمائة، مما سيرعب أرباب العمل ويشجع على تهريب الأموال وعلى الاستثمار خارجا، بينما فرنسا في حاجة كبرى لخلق الأعمال. كما يطالب هولاند بإعادة النظر في اتفاقية الاتحاد الأوروبي. وفيما يخص جهاز التعليم، فإن النقد الموجه ليس فقط عن قضية عدد المعلمين والمدرسين، بل إهماله للتوقف عند تداعي مستوى التعليم الفرنسي، وزيادة العنف ضد المعلمين والمدرسين، وبين الطلبة أنفسهم، وزيادة التسرب، والتساهل في منح الدرجات باسم المساواة، وهيمنة النقابات التي تهدر العشرات من أيام الدراسة بالإضرابات.
الواضح أن هولاند يتجه أولا لكسب الشباب [ كسركوزي] والمعلمين وموظفي الدولة وسكان الضواحي والنقابيين، وهو مطاطي فيما يخص الهجرة أو صعود الأصولية الإسلامية في فرنسا. ويعد بquot;دسترةquot; قانون العلمانية لعام 1905، أي جعله دستوريا مع أن الدستور الفرنسي يتحدث عن المساواة quot;بصرف النظر عن الجنس والعنصر والدينquot;، وكان قد أبدى رأيه في ضرورة إلغاء كلمة [عنصر] من الدستور وكان وجودها يشجع على العنصرية!!
في زمن البطالة، وانخفاض القدرة الشرائية، وأبلسة عالم المال والمصارف، وانتعاش الشعبوية الغوغائية، يسارا ويمينا، وانحياز معظم إعلاميي التلفزيزن الفرنسي يسارا، فإن برنامج الاشتراكيين له لمعان وبريق، وقد يجذب قطاعات واسعة حتى من غير الناخبين التقليديين للاشتراكيين، خصوصا وإن الحملة المركزة ضد سركوزي واتهامه بمحاباة عالم الأغنياء [ سهر مرة على يخت لصديق غني] قد أضرت به كثيرا حتى أن عددا من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الحاكم قد بدلوا مواقفهم في العام الماضي، مما أدى لخسارة حزب سركوزي الأكثرية في مجلس الشيوخ.
المرشح الاشتراكي لا يناقش برنامج سركوزي الانتخابي، وهو متردد في الموافقة على مناظرات تلفزيونية ثنائية، ولكن مركز دعايته الانتخابية متجه للقول بأن سركوزي لم ينفذ عددا من وعوده الانتخابية لعام 2007، مع نسيان لكون الأزمة المالية انفجرت بعد عام وغيرت المعطيات.
أما مارين لوبين، فهي تكثر من الحديث عن القدرة الشرائية والبطالة، وتجرم الاتفاقيات الأوروبية باعتبارها أضرت بسيادة فرنسا وبأوضاع العمال. وهي تنتقد اليسار لإبرامه لاتفاقيات اليورو وشانغن زمن ميتران. وتنتقد موافقة الحزب الديجولي بعدئذ رغم أنه كان مترددا في البداية. وكما نعرف، فهي أيضا تركز على الأمن، وعلى تحديات التطرف الإسلامي، وتدعو إلى تحديد الهجرة الشرعية من 200000 سنويا إلى 10000 فقط، وطرد جميع المهاجرين غير الشرعيين. ونقول إن بعض ما تركز عليه يعبر عما يشعر به فرنسيون كثيرون من quot;الأكثرية الصامتةquot;. ومن المفارقة أن في بعض برنامجها ما يلتقي مع اليسار الشعبوي، ولذا لا يتردد بعض المعلقين عن توقع انحياز أصوات شريحة من ناخبيها نحو ميلانشون. وإن تلاقي التطرفين في فرنسا والعالم ليس بالظاهرة الغريبة، مثلما تلاقيهما مع التطرف الإسلامي، ومن مواقع واعتبارات مختلفة!
وقد نعود للموضوع..