ارتأيت، قبل عرض عدد من أهم نقاط كتاب كالدويل والكتاب الفرنسي الوارد ذكرهما في المقال السابق، أن أقف وقفة سريعة عند آخر تطورات الحدث والتعليقات وردود الفعل. بعد مقتل المجرم محمد مراح، على نحو ما شاهده الجمهور التلفزيوني عالميا، انفجرت في فرنسا سلسلة محاولات من اليسار وغيره لاستغلال الحدث بالاتجاه الخاطئ لحسابات انتخابية.
كان موقف المرشح الاشتراكي خلال الأزمة جيدا، ولم يصدر عنه ما يثير السجال، كما أنه أشاد بعد مقتل الإرهابي بشجاعة رجال الأمن والشرطة الذين أصيب عدد منهم بجراح خلال الاقتحام. إلا أنه صدر حالا من الناطق بلسان حملته الانتخابية نقد صارم للحكومة والأجهزة، معتبرا النتيجة فشلا لأن المجرم لم يلق عليه القبض حيا. وأما مرشحة اليسار الأخضر فطالبت باستقالة وزير الداخلية لكونه هو من أشرف على الموقف بدلا من قاض كما ترى المرشحة. وانبرى بعض الخبراء للقول بأنه كان ممكنا إنهاء الموقف بقذف كميات أكبر من الغاز المسيل للدموع، متجاهلين أن ذلك قد يضر بالجيران وسكان الحي. ولا يزال السجال الفرنسي- الفرنسي مفتوحا- في تناس لقرار كل المرشحين خلال الأزمة بوقفة وطنية عامة دون استغلال للحدث سياسيا. وقرأت أن quot;فنيينquot; إسرائيليين أيضا ينتقدون طريقة حسم الموقف من الناحية الفنية.
هكذا تجري محاولات لتناسي خطورة وتعقيدات الحدث، وخصوصا تصميم المجرم على مواصلة القتل، وتضحيات رجال الشرطة، وما كان المجرم يشكله من خطر وهو الذي أعلن خلال محاصرته بأنه آسف لكونه لم يقتل عددا أكبر. أما شقيقه الأكبر سنا، فصرح بأنه فخور بأعمال شقيقه. وربما كان بذلك يعبر عن الموقف الحقيقي وغير المعلن للشارع العربي ولشرائح من المثقفين والساسة العرب والمسلمين في الدول العربية والإسلامية، وفي فرنسا وأوروبا، لكون أن ضحايا المدرسة كانوا يهودا، مع أن المظليين المغدورين مسلمون، واسم أحدهم محمد أيضا. وبهذا الشأن أيضا جاءت تعليقات بعض الكتاب العرب متحاشية هول الجريمة ومدى إساءتها لسمعة الإسلام والمسلمين، وكأن المشكلة ليست إدانة الإرهاب الإسلامي، وفضح دعاته، بل الخوف من استغلال إسرائيل لمقتل أطفال يهود. وفي لبنان رفض مدرسو المدرسة الثانوية الفرنسية تنفيذ قرار الحكومة الفرنسية بالوقوف حدادا لمدة دقيقة في المدرسة وذلك بحجة أطفال غزة. وهو خلط ملتبس ومغالطة. فمقتل أطفال هنا لا يبرر مقتل أطفال هناك، والغارات الإسرائيلية العنيفة على غزة تأتي دوما بعد إلقاء صواريخ الجماعات الجهادية وحماس على إسرائيل مع أنهم يعرفون أن الرد الإسرائيلي لن يلتزم بشيء وسيكون عنيفا أيا كان الضحايا.
أما الفضائية العربية الغوغائية، المعروفة بمهنة إثارة الشارع العربي بأساليب خبيثة، والتي هي القناة المفضلة لبيانات زعماء القاعدة، ولمناظر قطع الرؤوس في العراق، فإنها تحدثت عن مقتل quot; أربعة أشخاصquot; في مدرسة يهودية، أي تعمدت عدم ذكر كلمة أطفال. كما أنها أثارت عددا من التساؤلات السخيفة لإلقاء الشبهات على فرنسا، من قبيلquot; من أين جاء محمد مراح بالمال لشراء دراجة بخاريةquot;؟ ودون أن تذكر أصوله الجرمية من اعتداءات ومن عمليات سطو، فضلا عن كونه كان يأخذ إعانات البطالة من البلدية، وعلما بأن التحقيقات جارية لمعرفة من كان وراءه. وأرادت القناة أن تربط بين ما سبق الحدث بشهور من حديث سركوزي عن وجوب ضبط الهجرة [ 100 ألف كل عام]، وعن القيم العلمانية الجمهورية لفرنسا، في محاولة من هذه القناة الغوغائية الإخوانية لربط الجريمة بموضوع ضبط الهجرة.
لقد كانت تصريحات مسؤول منظمة الاتحادات الإسلامية في فرنسا، السيد الموسوي، خلال أيام الحدث، جيدة. وقد أعلن التضامن مع عائلات الضحايا جميعا دون تمييز، وتحدث بما يبرئ الإسلام والمسلمين من الجريمة، وهو ما أكد عليه أيضا الرئيس الفرنسي بقوة، رافضا كل خلط. ولكن لم نسمع عن استنكارات حكومية أو مدنية في الدول العربية، ولم نقرأ غير ريبورتاجات عن الحدث دون أن نقرأ، إلا نادرا جدا، مقالات خاصة تندد بالجريمة وتفضح الأيديولوجيا الممتطرفة من ورائها. وكم كان سيكون دامغا في مغزاه لو قامت مظاهرات استنكار من مسلمي فرنسا.
للعلم، فإن سمعة الإسلام والمسلمين في أوروبا غير مريحة جراء الإصرار على عدم الاندماج والمبالغة في المطالب الخاصة التي تنافي القيم الغربية العلمانية. وهذا مما يجب ان يكون دافعا للمثقفين العرب المتفتحين للقيام بدورهم في التوعية بقيم التسامح ورفض التطرف. كما أن الحكومات العربية- ولاسيما تلك التي تصرف مئات الملايين على المساجد والمدارس الإسلامية في الغرب- مدعوة لأن تتخذ إجراءات تساعد على التخفيف مما لحق بسمعة المسلمين من إساءات في الغرب، وأن تشن حملات توعية داخل بلدانها ضد التطرف الديني. ولكن من يفعل ذلك وموجة quot;الربيعquot; جاءتنا بمدد متزايد للتطرف الديني المسيس!!! كما لم نسمع مثلا أن حكومة عربية ما قد تبرعت ببناء مستشفى عصري في دولة غربية مفتوح لجميع المرضى بلا استثناء، وهذا مجرد مثال. وإذا كان الحذر من المسلمين في فرنسا أقل حدة من دول غربية أخر، كألمانيا مثلا، فإنه رغم ذلك يزداد اتساعا. وحسب دراسة استطلاعية موثقة نشرت أجزاء منها في صحيفة لوموند اليسارية ومجلة فالير أكتويل في بداية العام الماضي، فإن الرأي الغالب لدى قطاع واسع من الفرنسيين يرى الإسلام كالتالي: أولا رفض القيم الغربية، وثانيا هوس التزمت الديني، وثالثا الخنوع والطاعة، ورابعا العنف. هذا مرعب حقا.
ومن المقالات الفرنسية المهمة ما كتبه إيفان ريوفول في الفيغارو بتاريخ 23 مارس الجاري في انتقاد لاذع للطبقة السياسية والمثقفة الفرنسية للتجاهل المتعمد لخطر الأصولية الإسلامية المتصاعد باستمرار بفرنسا والغرب عامة. ويقول الكاتب إن اليسار وأصحاب النزعة quot;الإنجليكية الأخلاقويةquot; حاولوا في البداية أن يتهموا حزب اليمين الشعبوي، وهو ما فعلوه أيضا في السبعينات والثمانيات عند وقوع هجمات إرهابية جرت على اليهود بباريس، بل في بعض الحالات، وقبل انتهاء التحقيق، كانوا يسيّرون التظاهرات ضد أقصى اليمين الذي ألصقوا به تهمة الجرائم خلافا لما ثبت فيما بعد. ويرى الكاتب أن فرنسا دفعت بمأساة تولوز ثمن تجاهل الطبقة السياسية لصعود التطرف الإسلامي والحديث المتكرر عن الإسلامفوبيا، بل حتى وزير الخارجية ذهب مرة هذا المنحى. ويسجل كاتب آخر أن 14 بالمائة فقط من المسلمين الفرنسيين يعتبرون أنفسهم فرنسيين أولا. وحين ينتقد اليسار اليوم عدم اعتقال الإرهابي المذكور رغم ثبوت سفره لباكستان وأفغانستان، فإنه ينسى كم اعترض أهل اليسار على كل إجراء حكومي لتشديد المراقبة على المشبوهين. وهو أيضا كان موقف بعض المنظمات الإنسانية وغلاة اللبراليين والعديد من رجال القضاء. وقد عارضوا جميعا مشروعا لوضع بطاقات شخصية للمشبوهين تدون كافة المعلومات عنهم.
هذا وتستمر التعليقات وردود الفعل الفرنسية لتصبح جزءا من دعايات الحملة الانتخابية الرئاسية.
ولنا عودة للحديث عن كالدويل وزميله الفرنسي.