في مقالينا السابقين عن جرائم تولوز أشرنا لكتاب الصحفي الأميركي، كريستوفر كالدويل، الصادر عام 2009 في 364 صفحة، بعنوان quot;تأملات عن الثورة في أوروباquot;. وكالدول ليس حامل أيديولوجيا معينة، وليس ناشطا سياسيا ولكنه جامعي من هارفارد، ويكتب في الويكلي ستاندارد وفايننشال تايمس. وقد ترجم الكتاب في أواخر العام المنصرم للفرنسية بعنوان quot; ثورة أمام أعيننا..... كيف سيغير الإسلام فرنسا وأوروباquot;، وهو عنوان يلخص الفكرة المحورية للكتاب. ويقول كاتب المقدمة الفرنسية إنهم لم يكونوا واثقين من أن دار نشر فرنسية ستقبل بنشر الترجمة، ولكن وافقت أخيرا دار نشر quot;توكانquot;. والملاحظة بحد ذاتها ذات مغزى، وهي أيضا تشير لفكرة أساسية أخرى لكالدويل عن احتراس وتخوف الأوروبيين من تناول موضوع تحديات الوجود الإسلامي في أوروبا بصراحة ووضوح. وكما سبق وكتبنا، فإن الإعلام الفرنسي تجاهل الكتاب وترجمته، باستثناء صحيفة الفيجارو ومجلة فالير أكتويل، وذلك في تخوف من أن يجري تدوير النقاش وتشويهه، وما سيخلقه ذلك من حساسيات واحتمالات توتر اجتماعي فئوي.
كالدويل في كتابه صريح وشديد الصرامة، وكتابه صادم وجارح بصراحته، وبالطبع، فإن ما يثيره مفتوح للسجال.
المسلمون في أوروبا quot;هم مستقبل القارةquot;، حسبما يرى، وهو مستقبل خاضع لتحولات في الهوية والقيم والممارسات وفقا لممارسات المسلمين وأحكام الشريعة التي تلتزم بها غالبيتهم العظمى. ويردّ الباحث العربي quot;ماليك شبلquot;، المقيم بفرنسا، بأن ما سيحدث هو quot;إسلام علماني، إسلام التنويرquot;، وهو الذي سيتعايش مع الفرنسيين في فرنسا. وهذا ما لا يراه كالدويل، ولا الباحث الاختصاصي الفرنسي، كلود سيغارد، مؤلف كتاب quot; الإسلام مجابها الديمقراطية.quot; كما يعارض الكاتب الأميركي الباحث السوري الألماني بسام طيبي الذي يرد على من يرى أن الإسلام سيسود أوروبا مع نهاية القرن الحالي بالقول quot; ليست المشكلة في أن يصبح أغلب الأوروبيين إسلاميين، بل مشكلة أي إسلام: إسلام الشريعة أم quot;الإسلام الأوروبيquot;. ويقول كالدويل إن كلاما كهذا قد يثير بعض المخططين والساسة، ولكنه لا يطمئن نفوس الأوروبيين العاديين، ف quot;إسلام أوروبيquot; لم يكن له ذكر في دروسهم المدرسية، وهم غير متأكدين من وجوده إلا في مخيلة بعض الساسة المحترسين سياسيا.
يرى الكاتب الأميركي أن الهجرة المسلمة لأوروبا ذات خصوصيات غير موجودة في أية موجات هجرة أخرى للغرب.
في منتصف القرن العشرين كانت أعداد المسلمين في أوروبا ضئيلة جدا، واليوم يبلغ العدد ما بين 15- 17 مليونا. ويسأل الكاتب ما إذا كانت هذه الهجرة يمكن مقارنتها بموجات هجرة اللاتينيين للولايات المتحدة، أي من حيث العدد والزخم والتواصل. وجوابه بالسلب، حيث أن المهاجرين من أميركا اللاتينية مسيحيون، وإن كانت غالبيتهم من الكاثوليك، ولكن بينهم اختراقا من الكنيستين البروتستانتية والأنجيليكية. واللاتينيون المهاجرون أكثرهم من الأيدي العاملة، ولهم بنى عائلية أبوية منضبطة وصارمة، والعدد الأكبر يحضر الكنيسة بانتظام. واللاتينيون يقبلون أكثر من الأميركيين أنفسهم على الانخراط في الجيش الأميركي. وثقافتهم قريبة من ثقافة العمال البيض الأميركيين قبل 40 عاما. والأميركي، الذي كان صبورا في محادثاته مع كبار السن، يستطيع أن يتفاهم معهم بلا صعوبة. وبالتالي، فليست لهم مطالب فئوية ودينية خاصة يلحون عليها، ويطالبون المجتمع والدولة بالتكيف معها، وقبولها، كما هو حال المسلمين في أوروبا. فمنذ نصف قرن، صَدم المسلمون وهزوا الكثير من الأفكار المسلم بها في أوروبا والعادات والمؤسسات الأوروبية، فإما أن يفرضوا تبنيها من جانب الدولة والمجتمع، وإما أن يثيروا ردود فعل مقابلة من الدولة والمجتمع دفاعا عما هو سائد أوروبيا. وهناك، بالمقارنة مع الممارسات والقيم والعادات الأوروبية، تنازلات للمسلمين قد تعتبر ثانوية، مثل نوعية الطعام في فرص العمل والمدارس [ لحم حلال]، وعزل النساء عن الرجال في الحمامات، وقاعات للصلاة في مباني العمل، والصلاة في الشوارع. وإذا كان كل quot;تكيفquot; يعتبر ثانويا، فإن مجموع التنازلات تظهر الخطر، وهي تغري المسلمين بالمزيد من تقديم المطالب والإلحاح عليها باسم quot;الحرية الدينيةquot;، وهي الحرية التي لم يعد يذكرها الكاثوليك واللاأدريون والملحدون. وفي حالات أخرى، يكون رد الفعل سن قانون يدافع عن العلمانية كقانون حظر العلامات الدينية في مدارس الدولة بما فيها الحجاب- في فرنسا مثلا. وهو ما استنكره غالبية المسلمين الأوروبيين، وكذلك معظم حكومات العالم الإسلامي ومثقفيه والفقهاء من أمثال القرضاوي. ثم كيف يمكن للديمقراطية العلمانية الغربية أن تتكيف مع قتل النساء باسم غسل العار، أو تزويج القاصرات، أو دعوات الكراهية من جانب بعض أئمة الجوامع؟ ويذكر أن تلاميذ مسلمين في أكثر من مدرسة متوسطة وثانوية فرنسية رفضوا خلال أزمة تولوز الالتزام بدقيقة صمت على أرواح ضحايا الإرهابي محمد مراح. وحين قالت أحدى المدرسات للتلاميذ المعنيين في أحدى المدارس بأن بين الضحايا أطفالا، أجاب أحدهم بانفعال:quot; وإذن فهذا أحسن. هم يستحقون الموت لأنهم يهود.quot; وفي مدارس أخرى يكثر فيها تلاميذ مسلمون تجنب بعض المدرسين تنفيذ قرار الحكومة الفرنسية بصدد دقيقة الصمت خشية الإثارة. ومع أن زعماء quot; اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنساquot;، وهو اتحاد إخواني، قد أعلن عن تضامنه مع الضحايا والعائلات، فإنه سرعان ما كشف عن وجهه بدعوته عددا من فقهاء العنف والكراهية لمؤتمره السنوي، ومنهم القرضاوي، الذي تدخل الرئيس الفرنسي شخصيا لدى أمير قطر لثنيه عن الحضور لفرنسا في وضع حساس. واضطر السلفي المصري محمود المصري هو الآخر لعدم الحضور، بينما قررت الحكومة الفرنسية رسميا منع حضور أربعة فقهاء إخوانيين وسلفيين آخرين، عرفت لهم مواقف وتصريحات تدعو للكراهية والعنف.[*ملحق]
ثمة حقيقة هامة يذكرها المؤلف. فهناك واقع أن خصوبة الإنجاب في أوروبا متدنية [ متوسط أطفال العائلة بين 1- 3 ] فيما هذه الخصوبة أضعاف عند الجاليات المسلمة. وأوروبا تحتاج لمهاجرين من خارج أوروبا وخاصة لتشغيل ماكنتها الاقتصادية والخدمات العامة.
الكاتب يرى أن المسلمين عموما يربطون كل مطلب وكل تصرف باسم الإسلام والقرآن، وهو ما يفعله الجهاديون والمتطرفون الإسلاميون بوجه خاص وإن حاولوا تغطية ذلك بذرائع سياسية لا تنتهي، كما فعل الإرهابي محمد مراح. ومن هنا تنشأ وتنمو هواجس المواطن الغربي وقلقه من المسلمين- لا عن عنصرية، ولكن خوفا على القيم والتقاليد التي تربى عليها وجاءت بعد قرون من الحركات والثورات والتطور الفكري، وخاصة بعد عزل الكنيسة عن الدولة وعن خصوصيات الناس. صحيح أن هناك عنصرية وعنصريين، من أمثال زعيم اليميني الهولندي المتطرف أو النازيين الجدد، ولكن الحديث هنا هو عن هواجس القلق والشك التي تتزايد في المجتمعات الغربية- لا عن عنصرية، وإنما حرصا على منجزاتهم الثقافية والحضارية وحرياتهم العامة والخاصة- ولاسيما ما يخص المرأة وحرية التعبير. ولو أردنا الصراحة فإن العنصرية بين أكثريتنا، نحن المسلمين والعرب في الغرب، هي أكثر انتشارا وعمقا من العنصرية المقابلة. فقد تربينا على كراهية الغرب quot; الصليبي، حليف اليهوديةquot;، وحملنا معنا هذه الكراهية حتى ونحن في الغرب نتلقى مساعداتهم ونتفيأ بظلال عنايتهم الصحية وحرياتهم، وحماية الهاربين بيننا من حكامهم المستبدين. بل ويطالب اليوم معارضو الأنظمة العربية الظالمة بتدخل هذا الغرب quot; الصليبيquot; نفسه- حتى عسكريا- ضد تلك الأنظمة. فيا للمفارقات!
كالدويل يرى استحالة تكيف القيم المبادئ الغربية مع أحكام الشريعة، إلا إذا تنازل الغرب لها. هذا مثلا ما فعله قاض ألماني منذ أيام حين حكم في قضية طلاق ومهر بين تركيين بموجب الشرع الإسلامي. وسبق، قبل سنوات، أن دعا أسقف كانتربري نفسه لتطبيق بعض جوانب الشريعة في حالات العلاقات الزوجية بين مسلمي بريطانيا! ويرى كالدويل أن أي تكيف غربي مع مطالب إسلامية مضادة للقيم الغربية باسم الوصول إلى quot; إسلام أوروبيquot; سيكون بمثابة سياسة quot;الأرض مقابل السلامquot;، والأرض في هذه الحالة شيء مادي وملموس، فيما quot;السلامquot; ضبابي ومطاطي وبحسب الأمزجة المتغيرة. وبما أن المسلمين يربطون كل شيء بالإسلام، فإن المشكلة تبدو للغربيين كمشكلة الإسلام نفسه. ويقول المؤلف إن بوش خطب بعد 11 سبتمبر مباشرة بقوله: quot; الإسلام دين السلامquot;، مضيفا أن قلة من المسلمين المتطرفين يخطفون الدين. وكتب سركوزي عام 2004 مؤيدا قول جورج بوش هذا. كما أن توني بلير قال ما يماثل ذلك بعد تفجيرات عام 2005 . ويسأل الكاتب لماذا كل هذه التأكيدات العلنية كأول رد فعل؟ ألا يمكن أن تدل على أنهم يشعرون في أعماقهم العميقة بأن للدين دخلا حقيقيا فيما جرى. والواقع أن المتطرفين والمتزمتين الإسلاميين ينتزعون آية أو جملة من القرآن الكريم من هنا ومن هناك ويبنون عليها لاقتراف أعمالهم ومنها الإرهاب، آخذين بتفسيرات هذا الفريق أو ذاك من المفسرين و الفقهاء، الذين يعتبرون أنفسهم وكلاء عن الدين وناطقين باسمه.
ويتناول كالدويل كيف يفهم غالبية المسلمين كلمة quot;جهادquot;، وكيف يطبقها المتطرفون والإرهابيون بينهم، أي بالعنف ضد من يعتبرونهم كفارا وليسوا من quot; الدين الحقquot;، ساترين ممارساتهم العنفية والدموية بذرائع سياسية تتزايد وتتغير من وقت لآخر. أما الدعاة الذين يعتبرون quot; معتدلينquot; من بينهم، فإنهم يحاضرون ويخطبون ويكتبون بان معنى الجهاد في الإسلام هو جهاد النفس ضد أهواء النفس. ولكن لماذا لا يفهم معظم المسلمين كلمة جهاد على هذا النحو الأخلاقي النبيل؟! ولماذا يصف الإرهابيون أنفسَهم بـquot;الجهاديينquot;، وثمة تنظيمات إرهابية بنفس التوصيف؟؟ وبدلا من كلمة جهاد يستخدم أمثال الداعية طارق رمضان [ يخصص له المؤلف بعض الفصول] كلمة quot; مقاومةquot;. وكلمة quot; مقاومةquot; نفسها تحتمل العنف والصدام. وهي ليست ككلمات quot;معارضةquot; أو quot;مخالفةquot; أو quot;إصلاحquot;. وكلمة مقاومة تستعمل في محاضرات وخطب وتصريحات الداعية المذكور، كما يستخدمها اليسار الغربي المتطرف المعادي للعولمة وأميركا، فتصبح quot; مقاومة الحضارة الغربية المتفسخةquot; وquot; مقاومة النظام الاقتصادي العالمي الظالمquot; وهكذا. وبالطبع فإن ما يقصده هذا الطرف يختلف عما يقصده الطرف الآخر، الذي يروج في الواقع لكون أن الغرب quot;الماديquot; قد أفلس روحيا ولا شفاء له ولا منقذ غير روحانية الإسلام. وكان مؤسس حركة الإخوان حسن البنا قد اعتبر هدف إجلاء القوات البريطانية واجبا ديني. وكان يقول إن الاستعمار الإنجليزي أفسد عقول المسلمين وأبعدهم عن دينهم، ولذا يجب النضال ضد كل ما هو استعماري في المجتمع وفي الفكر، والنصر للإسلام لان الغرب مفلس روحيا. وكان يرى أن الغرب رمز للقوة والإسلام رمز الحكمة، والقوة يجب أن تخدم الحكمة. وحريات الغرب صالحة بقدر ما تسمح للمسلمين بممارسة دينهم. وبحسب كالدويل، فإن الحفيد يرى أن يكون اندماج المسلم في الغرب وفقا للتعاليم الإسلامية، والمسلمون يلتزمون بالقوانين الأوروبية بقدر ما لا تتعارض مع الإسلام، وأما إذا رفض الغرب التكيف، فالعنف قادم لا محالة! [ ص 237- 245 من الأصل الإنجليزي].
إيلاف في 31 مارس 2012

ملحق:
الدعاة المتطرفون الأربعة المذكورون، الذين رفضت فرنسا حضورهم: هم سعوديان ومصري وفلسطيني. قال أحدهم: quot;يرد في بعض الكتب أن اليهود هم إخوان القردة والخنازير.quot; وأخر أفتى بشرعية ضرب الزوجة إن لم تطع زوجها. وأما الداعية المصري صفوت الحجازي، وهو أيضا نجم تلفزيوني، [كنجم فقيه الجزيرة]، فصرح، لا فظ فوه: quot;نعم، أنا معاد لليهود. ولولا الزعماء العرب، فإن علينا افتراس اليهود بأسناننا.quot; وقد نشرت الفيغارو الفرنسية نص هذه التصريحات مع صور أصحابها في عدد 30 مارس 2012. والآن، هل يحق للمواطن الغربي أن تنتابه الهواجس والقلق من أمثال هؤلاء الذين هم الذين الذين يقدمون الدين للعالم وللمسلمين، وهم الذين يصوغون ثقافة وفكر ونفوس غالبية المسلمين الساحقة، سنة كانوا أو خمينيين!!!؟