يمكن القول إن المنطقة العربية تسير القهقرى في تراجع ملحوظ. ولو أخذنا أهم الدول العربية، مصر، مثلا لوجدنا أن انقلاب الضباط الأحرار قد أجهز على وضع لم يكن كله سليما، ولكنه لم يكن بالسوء الذي صوروه. وأتذكر مقالا بهذا الصدد لتركي الحمد عام 2007 حين أكد على نسبية الأمور، وكيف كان هناك اقتصاد حر أفرز نهضة مصرفية، وكيف كان الجنيه المصري يفوق الجنيه الإسترليني عهد ذاك. وبرغم تحكم قلة من كبار الرأسماليين لكنهم كانوا أصحاب استثمارات ومشاريع توظف أعدادا كبيرة من العمال. ربما كان فاروق فاسدا شخصيا، [ وإن برهنت الوقائع على أنه كان ثمة مبالغة وتهويل عن فساده]، إلا أنه كانت هناك درجة مناسبة من الحريات العامة والفردية، وفي عهده فاز حزب المعارضة، الوفد، بالانتخابات عشية حركة العسكر. ولا داعي لإعادة التذكير بالنهضة العلمية والفكرية والأدبية والسينمائية والموسيقية لتلك الفترة من عمر مصر الحديث. ولا بد أيضا من ذكر أيضا أنه كانت أمام البرلمان مشاريع لإصلاح زراعي متقدم. فماذا جاء به الانقلاب العسكري؟ تأميمات شاملة جلبت بيروقراطية شاملة وفسادا عاما، ونظام التنظيم الواحد والقائد الأوحد والفكر الواحد، ووضع الثقافة في خدمة quot; الثورةquot;، وقمع الحريات، وفتح المعتقلات وممارسة التعذيب حتى الموت. وفي أوضاع كهذه لم تتحصن المكتسبات التي تحققت للعمال والفلاحين، بل كانت ستضيع أمام أول هزة وتغيرات كبرى. والعهد الناصري مسئول أيضا عن المغامرات العسكرية الفاشلة، ولاسيما كارثة 5 حزيران. أما شعارات الوحدة العربية، التي رفعها مع البعث، فكانت منفصمة عن الواقع برفضها رؤية الخصائص الكبرى والفروق الكثيرة بين بلد عربي وآخر. وباسم الوحدة شاركت الناصرية في اغتيال الثورة العراقية. وهذا مع الاعتراف بنزهة وإخلاص الراحل عبد الناصر.
إن ما يحدث في مصر اليوم من صعود الإسلاميين وهيمنتهم السياسية والمجتمعية ما هو غير نتيجة حتمية لحركة الضباط، وثم لتشجيع السادات للإسلاميين، وصولا لعهد مبارك الذي، برغم خدماته الكبرى لمصر، ضيع نفسه بالإصرار على توريث السلطة والتساهل مع فساد المقربين؛ مثلما هو نتيجة حتمية للتخلف الاجتماعي والثقافي العام والنظرة المتكلسة على ماض قديم قرون -أوسطي لا يمكن استنساخه بحال، ولم نعد النظر فيه برؤية نقدية شجاعة كما تعامل الغرب مع ماضيه.
لم يرض الضباط الأحرار بما كان قائما من مؤسسات ونهضة اقتصادية نسبية وحريات، وانفتاح فرص الإصلاحات المتدرجة مع الوقت، فانساقوا لهدم كل شيء بضربة عسكرية تحت وهم بناء ما هو أفضل وتقديم نموذج مثالي للآخرين في المنطقة.
وسار الوضع العراقي بطريقة مغايرة ولكن النتيجة شبه قريبة. فثورة 14 تموز أجهزت على مؤسسات ولدت تدريجيا وإن لم تكتمل منذ قيام العراق الحديث، ولكن الثورة، التي تسببت سياسات نوري السعيد باندلاعها، لم تستطع بناء نظام ديمقراطي برلماني رغم كل ما حققته من مكاسب هامة للشعب وسيادة البلاد، وبرغم أن الثورة قدمت لنا زعيما مثاليا بتسامحه وعشقه للشعب ونزاهته. والأسباب هي الصراعات السياسية الحزبية الدموية، وانفصام الأحزاب السياسية، والمواقف الرجعية التحريضية لمراجع دينية، والتآمر الإقليمي والدولي.
إن الانفصام السياسي العربي يتمثل في رفض قراءة الواقع وتضاعيفه، والاستخفاف بمكاسب متحققة على الأرض وإن كانت ناقصة، وأوهام إمكان تحقيق كل شيء دفعة واحدة ولكن بلا رؤية واضحة ولا بصيرة ثاقبة. كذلك المبالغة في القوة الذاتية دون مراعاة لموازين القوى.
إن أكثر المصابين بالانفصام هم الحكام المستبدون، ولاسيما الحكام الشموليين الدمويين. تذكروا مثلا لقاء وزير الخارجية الأميركية الأسبق بيكر مع وزير الخارجية العراقي عشية حرب الخليج الأولى، وكيف انذر القيادة العراقية بإعادة العراق لما قبل العهد الصناعي إن لم ينسحب الجيش العراقي من الكويت. استخف الحكام العراقية بالتحذير، وكان ما كان. وقد توهموا أن الولايات المتحدة تلعب وهي مترددة ولن تحارب. وكان هناك من ينفخون في هذا الغرور والانفصام عن الواقع الدولي والإقليمي. وأذكر بالمناسبة أن السيد فاروق القدومي كان في سويسرا خلال مباحثات بيكر وطارق عزيز، وكان مطلعا على سير المباحثات. وقد حل بباريس بعد يومين، فذهبت مع بعض الأصدقاء للقائه في الفندق بمونبرناس. أتعرفون ما قال؟ قال ما معناه: -لا تخشوا فعند العراقيين أسلحة ستذهل الأميركيين، وهم لن يجازفوا بالحرب-. وبعد أيام قليلة اشتعلت الحرب!
وبينما كانت العقوبات تطحن المواطنين، مضى صدام في بناء القصور الموشاة بالذهب، منفصما عن واقع الشعب، الذي هب بانتفاضة عفوية، وجاهلا بعواقب استمرار الملاحقة الدولية- حتى كان ما كان. وهذا يذكرني بالرئيس السوري، الذي يعاني بدوره انفصاما تاما عن الواقع، ماضيا في القمع الدموي، وغير عابئ بمآسي المواطنين والاحتجاجات الدولية والإقليمية، وغير متعظ بمصائر صدام والقذافي والآخرين، وكأن بالإمكان أن تستمر الأمور هكذا، ويستعيد النظام قوته مع أنه صار في حكم المنتهي.
لكن الحكام ليسوا وحدهم مصابين بمرض الانفصام عن الواقع، بل أرى أنه مرض سياسي عام، قل منا من نجا منه، بدرجة أو أخرى، من ساسة، ومن مثقفين مهتمين بالسياسة. وتقترن بالانفصام المفارقات في التحليل والنظرة والمواقف. وهو ما سنعود إليه في مقال مستقل.
- آخر تحديث :
التعليقات