العالم مشغول، وهو محق، بالأزمة السورية حيث يتواصل إهدار النظام للدماء يوميا في مجازر جماعية، وبما أفقد هذا النظام كل شرعية، وأسقطه أخلاقيا وسياسيا ومعنويا، على الأصعدة الداخلية والعربية والدولية. وتتعدد اللقاءات والمواقف، وصيغ الحلول، ومنها مشروع لتسليح المعارضة، وهو ما سيؤدي- كما أرى- لتحويل سوريا إلى طبعة من ليبيا أمراء الحرب لما بعد القذافي. أملين أن يتوصل الضمير العالمي أخيرا وسريعا إلى الحل الذي يوقف حمامات الدم ويعاقب النظام ويستبعد خطر حرب أهلية شاملة.
إن الانشغال العام بالوضع السوري مفهوم ومبرر، ولكن من الواجب، في الوقت نفسه، النظر لما يجري في بلدان الانتفاضات الأخرى، فالأوضاع مترابطة مباشرة أو غير مباشرة، وإن فضح ونقد الممارسات والسياسات السلبية باسم الثورة واجب قومي وإنساني.
إن ما يشاهده المراقب هذه الأيام في مصر وتونس المبادرتين بالانتفاض، يبعث على بالغ القلق والشجن. فالقوى الإسلامية المنتصرة في مصر وتونس توجه ضرباتها المتتابعة لحرية الرأي والتعبير والإبداع. وفي مقال سابق تناولنا أمثلة عن الاعتداء على حرية التعبير وعلى حرمة الجامعات في تونس، ومحاولة سلب مكتسبات المرأة تدريجيا. هذه الاعتداءات تنسب للسلفيين، ولكن quot;النهضةquot; موافقة ضمنيا برغم التصريحات التطمينية. ويكتب عبد الله إسكندر في quot; الحياةquot; عدد 15 شباط الجاري أن السلفيين يستدعون داعية مصريا معروفا بالتشدد والتحريض في قضايا المساواة والسلوك والمرأة. وقد حول مناهضو الدولة المدنية المساجد لأماكن للتجنيد والتحريض والصدام مع أعضاء هيئات المجتمع المدني.
أما في مصر، فالأحداث تتوالى بسرعة. فقد حكم على عادل إمام بالسجن عن أعماله السابقة بحجة أنها تسئ للدين الإسلامي مع أنها كانت تفضح ممارسات منافقة ومضللة باسم الدين. بعد ذلك، قام عدد من الطلبة الإخوانيين في كلية الهندسة بجامعة عين شمس بمنع السماح لفريق عمل مسلسل بسبب اعتراضهم على ملابس الممثلات المشتركات، التي وصفوها بquot; القصيرةquot; مع أن أحداث المسلسل هو عن مصر في السبعبنات. ولم يكن في ذلك الوقت من يعترض على تلك الملابس. ولعل المطلوب إخوانيا هو تحجيب الممثلات إن لم يكن تنقيبهن ليرضى عنهم الدين- عفوا أقصد سماحة المرشد. والمهندس ورجل الأعمال القبطي الديمقراطي نجيب ساويرس يقدم للقضاء لأنه نشر كاريكاتيرا ساخرا للحية وعمامة وكأن الإسلام قد تقلص إلى اللحى والعمائم. ونعرف أن هناك من يلبسون العمائم ويطيلون اللحى ويؤدون الفرائض ولكنهم في حياتهم اليومية يمارسون النفاق والكيد ويركضون وراء الشهوات. وقبل ألف عام تقريبا نظم الشاعر ابن الرومي قصيدة مطولة تسخر من لحية طويلة لرجل منافق، ووصفها بالمكنسة وبالمخلاة، ولكن أحدا لم يتهمه بالإساءة للدين. وبين هذا وهذا وذاك، يجري تهجير عدد من عائلات الأقباط من إحدى القرى المصرية بحجة وجود علاقة غرامية بين قبطي ومسلمة! فالحب ممنوع أصلا، فكيف لو كان بين قبطي ومسيحية؟! ويواصل المجلس العسكري مطاردة واعتقال منظمات المجتمع المدني بحجة أنها مرتبطة بخطة أميركية تسعى إلى quot; توجيه الثورة لمصلحة أميركا وإسرائيلquot;! وهذا ما صرحت به وزيرة مصرية محترمة تزعم أن هؤلاء النشطاء [ومن وراءهم] لا يريدون نهضة مصر كدولة حديثة ذات اقتصاد قوي لأن ذلك سيشكل quot; أكبر تهديد للمصالح الإسرائيلية والأميركية ليس في مصر وحدها، وإنما في المنطقة ككل.quot;- فما أروع هذا التحليل المنطقي وأعظم بعبقرية أصحابه! ولكن يا سيدتي من الذين يدمرون السياحة ويعطلون العمل ويسدون الطرقات وينشرون الفوضى ويعتدون على النساء، وهو مما يعطل كل سير نحو مصر ذات اقتصاد قوي ونموذجي؟ ومنذ متى كان التبشير بالقيم الديمقراطية وتنشيط دور المجتمع المدني من الكبائر؟ وعن أية ثورة تتحدث السيدة المحترمة وقد بدا شباب الحرية بالانتفاضة، وركب الموجة واختطف الثمرة أعداء الديمقراطية والدولة المدنية؟؟! ألا يكفي حكام مصر الجدد هذا الهوس بنظرية المؤامرة التي يرونها في كل زاوية وquot;زنقةquot;، محاولين بذلك تبرير وتغطية فشل أساليب إدارة المرحلة الانتقالية وواقع الحلف القائم بين المجلس والإخوان؟!
ما أراه هو أن ما يحكم مصر اليوم من عقلية سياسية ومن سياسات هو توليفية ناصرية- إخوانية، وإذا استمر الحكم بهذه العقلية فقد تنجر مصر لمغامرات خارجية جديدة قد تكون أكبر كارثية من سابقاتها. ولن تكون هناك حينئذ لا نهضة اقتصادية ترعب الدولة الكبرى، ولا شبح quot;ثورةquot;!