قبل أسابيع قليلة، انفجرت في تونس أعمال عنف وشغب يقودها متطرفون إسلاميون، باسم الحرص على quot;الهوية والمقدسquot;، ضد قناة quot; بسمةquot; الخاصة لبثها فيلما إيرانيا اتهموه بمس الدين. وقد اعتدوا على مقر القناة، وحاولوا الاعتداء على بيت مدير القناة نبيل القروي. وبدلا من محاكمة مدبري ومنفذي الشغب والعنف، فإن مدير القناة هو من يقدمونه للقضاء وسط هيجان وتهديدات أصحاب اللحى من السلفيين والمضللين بهم. وهذا في عهد ما سميت بثورة الياسمين [ أو اللوتس- لا أدري!]
خلال عام الانتفاضات المنصرم، كنت دوما أؤكد على أن ثقافة المجتمعات العربية وتقاليدها المحنطة وانتشار الأمية بين سكانها، والعقليات والممارسات المتميزة بالعنف وكراهية الآخر، والضيق بحرية الرأي، هي العائق الأول أمام قيام أنظمة ديمقراطية مدنية في البلدان العربية؛ أنظمة تلتزم بحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية المعاصرة وبالحداثة. وقد برهنت التجارب مع الأسف على صواب هذا التحليل، وخصوصا بصعود الإسلاميين للبرلمانات والسلطة، من إخوان ومن سلفيين. ومع أن حزب النهضة اعتبر محاكمة القروي ليس هو الحل، ولكنه، من جهة أخرى، تحدث عن احترام quot; الهوية والمقدسquot; وكأن الفيلم المذكور قد مسهما بسوء، وهذا يعني خطابا مزدوجا: التظاهر باحترام حرية التعبير من جهة، والإدانة الضمنية للقناة والفيلم.
السؤال: لماذا نجد المسلمين، من بين كل حملة الديانات الأخرى، يقابلون بالعنف والهيجان أي مقال أو كتاب أو فيلم متهم عندهم بمس الدين؟
لا نريد العودة لشيوخ الأزهر في العشرينات في هيجانهم ضد كتب لعلي عبد الرازق ومنصور فهمي وطه حسين. ولا نذكّر أيضا بالموقف من نصر حامد ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ وتحريم بعض رواياته. أو ثوران طلاب الأزهر ضد رواية أعشاب البحر، التي تبين أن أحدا منهم لم يقرأها أصلا، والتي كانت قد صدرت قبل هياجهم بعشرين عاما؛ أو فتوى خميني بقتل سلمان رشدي عن رواية لم يقراها، والتي استندت في بعض أهم ما تعرضت للحملة بسببه إلى مجلدات تاريخ الطبري التي ظلت عهودا بعد عهود وقرونا إثر قرون مرجعا معتمدا. لنترك كل هذه الصفحات الباعثة على التنديد والرفض، ولنر كيف يمارس المسلمون نفس ردود الفعل من قتل ومن تهديد بالقتل وتفجير في قلب أوروبا الديمقراطية، سواء في قضية رسوم الكاريكاتير إياها، أو في تفجير مجلة أسبوعية فرنسية قبل أسابيع في باريس لنشرها رسما ومقالا اتهمهما متطرفون إسلاميون بالإساءة للدين فألقوا بقذائف المولوتوف على مقر المجلة واحرقوه مع محتوياته.
نعم، لماذا نقابل بالأحزمة الناسفة والاغتيالات أو التهديد بها كل من نتهمه بالإساءة للإسلام بدلا من ممارسة أساليب الإيضاح والنقاش الهادئ، وفي بعض الحالات اللجوء للتظاهرات السلمية الهادئة إن اقتضى الأمر، كما فعل كاثوليك فرنسيون متدينون في الفترة نفسها في التعامل مع فيلم اعتبروه يمس بالسيد المسيح. فقد وقفوا بصمت وبلا صخب أمام دار السينما الباريسية ثم انصرفوا بسلام دون تهديد وبلا مطالبة بمحاكمة أحد. وهذا في نفس الوقت التي فجر فيه متطرفان تركيان مقر المجلة الكاريكاتورية المشار إليها.
نعم، لا ديمقراطية مدنية مع سيادة ثقافة العنف ورفض الحوار والخوف من حرية الرأي والتعبير. ولا ديمقراطية مع كراهية الآخر ومع امتهان المرأة وحقوقها. ولذلك فقد كان طبيعيا أن يتكشف quot;الربيع العربيquot; المزعوم عن شتاء كالح سيهدد أسبط الحريات الشخصية والعامة. وإنه لمن السخرية بالعقول حقا أن يبشرنا البعض بالديمقراطية عندما تكون السلطة في أيدي أحزاب الإسلام السياسي. ونعرف جيدا عنquot; ديمقراطيةquot; دولة طالبان أو دولة الفقيه أو نظام إسلاميي السودان وإمارة غزة. ونعرف جيدا الديمقراطية المسخ في عراق اليوم، حيث ضرب التظاهرات السلمية ونشر الطائفية، وتحريم الموسيقى والغناء، والتغني بمآثر خميني ورفع صوره وصور خامنئي. وهل من عجب أن يعلن قائد فيلق القدس أن العراق يسير على فكر وأداء نظام الفقيه!!؟
إن من الواجب إدانة محاكمة القروي وإعلان التضامن معه. وهذا ما فعلته نخبة مباركة من محامي تونس ومن ممثلي المنظمات غير الحكومية وعدد من الشخصيات السياسية التونسية.
إن الدفاع عن حرية التعبير في تونس واجب كل مثقف يؤمن حقا بقيم الحرية والديمقراطية.