في المقال السابق أشرت لمقال مهم لكاتب سوري يفند كون نظام الأسد نظاما طائفيا، بل هو عابر للقارات حسب نظره- أي نظام دكتاتوري، فردي، عائلي، شمولي، يخدم مصالح العائلة والمقربين والأجهزة الأمنية القمعية، وكذلك فئات التجار والأغنياء، ومعظم هؤلاء من السنة. ولكن كون الأسد والعائلة ولفيف من كبار المسئولين العسكريين والأمنيين هم علويون، جعل النظرة الشائعة عن النظام، بين عامة الناس وحتى بين المثقفين من المعارضين، هي أنه نظام يمثل العلويين بالتحديد. وهذه النظرة الشائعة تساهم في احتمالات نشوء حرب طائفية ساخنة في آخر المطاف. وهو ما قد يسعى له النظام كملاذ دموي أخير- كما يتوهم- كما قد تسعى له بعض العناصر المتطرفة من بين المعارضة. وتذكر صحف 14 الجاري أن بعض المدن السورية تشهد منذ شهور بدايات هذه الحرب، كحوادث خطف العديد من الفتيات في مدينة حمص، والعثور بشكل يومي على جثث منكل بها ومشوهة مرمية في أحياء المدينة، سواء تلك التي تسكنها أغلبية علوية أو التي تسكنها أغلبية سنية [ الشرق الأوسط في 14 يناير 2012 ]. هذه الحوادث لا تزال عرضية ومحصورة ومحلية، والخشية أن يؤججها النظام.
وفي مقالي الأول أشرت، فيما يخص العراق، لغياب البعد السياسي عند الحديث حول الطائفية، لاسيما قرن شيعة العراق بالتبعية السياسية والمذهبية لإيران [الشيعي يعني هو عجمي!!]
والواقع أن إيران حاولت دوما الإيحاء والعمل بكونها تدافع عن شيعة العراق، سواء في العهد الصفوي أو عهد الشاه، ولاسيما في عهد ولاية الفقيه. فحيثما توجد أقلية أو أكثرية شيعية، تقوم إيران بتحركات أو تدلي بتصريحات وكأنها حامية لواء شيعة المنطقة. وهذا ما وصف خطا قبل سنوات بquot;خطر المد الشيعي في المنطقةquot; والحال إنه مد إيراني فارسي عنصري، لا تشغله غير مصالح النظام وبقائه. وفي سبيل ذلك فكل شيء مباح بما في ذلك استخدام القاعديين الذين يكفّرون الشيعة أو طالبان. ونذكر تأييد السيد مقتدى الصدر لولاية القاعدة في الفلوجة عام 2004، وتحركات الزرقاوي ما بين إيران والعراق بعلم فيلق القدس. وفي عشية الحرب العراقية الأخيرة نشرت صحيفة الدكتور أحمد الجلبي نفسها،[المؤتمر]، تصريحات عدد من الشخصيات الشيعية العراقية في إدانة ما وصفته بمحاولات تعجيم شيعة العراق. وقد نشرت التصريحات في عدد الصحيفة ليوم 13 مارس 2003 بمناسبة مؤتمر نظمته السلطات الإيرانية في طهران للأحزاب الشيعية العراقية. وكان ممن أدانوا ما سموه بquot;محاولات تعجيم شيعة العراقquot; السادة محمد بحر العلوم وحسن الصدر ومحمد عبد الجبار وهيثم السهلاني وغيرهم، ممن أكدوا في تصريحاتهم رفض quot;تعجيم هؤلاء الشيعة ليكون لهم ولاء مزدوج للوطن وللحاكم الإيراني.quot;
والمحزن أن الأحزاب الشيعية الحاكمة اليوم قد ساعدت الدعاية الإيرانية، وآخر ذلك قيام منظمة بدر بنشر صور خميني وخامنئي في شوارع البصرة دون أن نرى استنكارا من الحكومة التي اعتادت الحديث المستمر عن السيادة الوطنية. ومن قبل، ندوات ومحاضرات لمدة أسبوع في النجف بمناسبة ذكرى خميني.
إن مفهوم حاكمية الشيعة الذي نادى به العديد من رجال المرجعية، والذي صاغه السيد المالكي بعبارة quot;ما ننطيهاquot;[ لا نعطيها- أي السلطة]، وما تردد حلال انتفاضة آذار 1991 من شعارات quot;ماكو ولي إلا علي نريد حكم جعفريquot;، إيهام بأن السنة كطائفة هم من حكموا العراق حتى سقوط صدام، وان الشيعة كطائفة وأكثرية كانوا محرومين من الحقوق. وقد تحدثنا عن العهد الملكي في المقال الأول. وأما عن عهد سلطة البعث الثانية، فلابد من ملاحظة تعدد وتغير فترات ومراحل ذلك العهد، وتعدد الممارسات والسياسات، بحيث لا يمكن وضعها جميعا في خانة واحدة إلا من حيث كون الهدف الحقيقي من مختلف الممارسات والسياسات - ما بين قمع وحشي، وانفتاح وإجراءات إيجابية، ثم قمع وحشي وحروب- كان هدف بقاء النظام. وعندما استقرت السلطة عند صدام، فقد كان الهدف تثبيت وترسيخ السلطة في يديه والعائلة بمعونة الحرس الجمهوري وأجهزة المخابرات والأمن.
إن دور ومكانة الشيعة في عهد صدام يحتاجان إلى تفكيك ومزيد من التحليل نظرا لوجود ما قد يعتبر متناقضات. فمثلا جرت أوسع حملة تهجير همجية لحوالي ثلاثة أرباع مليون شيعي ممن كتب في هوياتهم الرسمية أنهم من quot;التبعية الإيرانيةquot; [كان ذلك في العهد العثماني وتجنبا للتجنيد لإجباري]. وكان أكثرية الضحايا من الكرد الفيلية الذين كانت جريمتهم مزدوجة، أي لانتمائهم القومي الكردي أيضا. وخلال الحرب مع إيران اتخذت إجراءات تضييق وقمع وحظر على بعض طقوس ومراسيم الشيعة في أيام عاشوراء وما يسمى بالأربعينية. واستغل النظام محاولة حزب الدعوة اغتيال طارق عزيز لشن حملة وحشية ضد كوادره وقاعدته. وقد قتل المرجوم محمد باقر الصدر وشقيقته بمنتهى الجبن والخسة. وبعد انتفاضة آذار شنت صحافة النظام دعاية تشنيعية وتشهيرية صاخبة ضد سكان مناطق الأهوار الشيعة، ولحد اعتبارهم أجانب جاؤوا من الهند، مع التعريض السمج بأخلاقهم. لنذكر، في الوقت نفسه، هنا أن أول رجل دين قتل تحت التعذيب كان سنيا، هو عبد العزيز البدري، وأن رفاق صدام من قادة الحزب، الذين أعدموا عام 1979، كانوا من السنة. وكذلك صهره حسين كامل وأخوه وراجي التكريتي وفاضل البراك وعشرات من كوادر البعث من السنة. فالمسألة بالنسبة لقمة النظام كانت الولاء المطلق لشخص الرئيس وضرب كل معارضة أو منافسة من أية جهة جاءت ولو من العائلة نفسها. فالنظام كان دكتاتورية شمولية دموية وعنصرية، وكان يعتمد على quot;الموالينquot;، الذين لا يمكن أن يكونوا إلا بعثيين، سواء من السنة أو من الشيعة. وفي نفس الوقت، كان صدام لا يمانع من تسنم من يعتبرهم أصحاب خبرة وظائف مهمة ولو كانوا غير بعثيين، وسواء من السنة أو الشيعة.
لماذا أقول إن موقف النظام الصدامي من الشيعة إشكالي، ويحتاج لمزيد من التحليل وإلى تفكيك؟ ذلك لأنه، بجوار الإجراءات والممارسات التمييزية والوحشية التي مر ذكرها، فإننا نرى التالي أيضا: لأول مرة في تاريخ العراق الحديث عين شيعي وزيرا للدفاع وهو سعدي طعمة الجبوري. ولأول مرة كان رئيس أركان الجيش شيعيا، وهو عبد الواحد شنان آل رباط. وثمة قادة فرق وصنف الدروع وصنف المدفعية وأمين السر العام لوزارة الدفاع، وكلهم شيعة. وأول مدير عام للأمن في ذلك العهد كان شيعيا، وهو الجلاد ناظم كزار، وكان مساعده علي باوي كرديا شيعيا أيضا. ومعظم مدراء الدوائر الحساسة في جهاز المخابرات كانوا من الشيعة. وسعدون حمادي الشيعي صار رئيسا للوزراء، وكذلك محمد حمزة الزبيدي. والصحاف كان شيعيا. وكل هؤلاء وغيرهم كانوا بعثيين. ولكن شيعة غير حزبيين شغلوا أيضا مناصب مهمة، ومنهم من كانوا في هيئة التصنيع العسكري، التي كان أكثر من 60 بالمائة منهم من الشيعة. ومعظم خبراء وعلماء منظمة الطاقة الذرية كانوا من الشيعة، ومنهم من كانوا مستقلين. ونذكر حسين الشهرستاني [تعرض لغضب صدام فيما يعد] وجعفر ضياء جعفر. وشغل مناصب سفراء في العواصم أو في مندوبية الأمم المتحدة أو مندوبية اليونسكو شيعة ما بين مستقلين وبعثيين. وترأس شركة النفط الوطنية الشيعيان المستقلان عبد الأمير الأنباري وفاضل الجلبي. وكان في القيادة القطرية من الشيعة نعيم حداد وسعدون حمادي وعزيز النومان ومحمد حمزة الزبيدي ومزبان خضر وعبد الحسن راهي وحسن العامري. ونذكر أيضا أن معظم أفراد فدائيي صدام كانوا من الشيعة وأكثرهم التحقوا بجيش المهدي بعد سقوط صدام.
من ذلك وغيره فإن التوصيف الأدق للنظام العراقي السابق هو أنه كان دكتاتورية شمولية دموية فردية تضرب كل من يتحرك أو يخشى منافسته، وأيا كان، شيعيا أوسنيا أو من بقية الطوائف.
إن من الخطأ الفادح للغاية الحديث عن أنه كان نظاما للسنة ولصالح السنة، وما يعنيه ذلك من وضع علامة مساواة بين السني وبين البعثي الصدامي.
ومهما يكن، فهذا موضوع مفتوح للنقاش الهادئ والبعيد عن التهم الجاهزة بالطائفية والبعثية، وهي التهم الرائجة حتى في كتابات بعض المثقفين العراقيين. وما كتبته هنا هو وجهة نظر أرجو أن نشجع على الحوار البناء.
16 -1-2012 إيلاف
- آخر تحديث :
التعليقات