أضفت كلمة الجريمة للعنوان بمناسبة الجرائم الرهيبة للشبان السود، والمستمرة لحد كتابة هذه السطور، في لندن، من حرق للمخازن والسيارات والبيوت، ونهب، واعتداء على البوليس، وإشعال للحرائق فيما الديمقراطية البريطانية غير قادرة لحد اللحظة على لجم ومعاقبة المجرمين وتطبيق القوانين، بما في ذلك طرد المجرمين وعائلاتهم التي لها دور كبير في هذه التربية الإجرامية الخارجة على القانون. وكان فيلسوف التسامح جون لوك هو الذي قال إنه حيثما لا قانون، فلا توجد الحرية، بل توجد الجريمة والطغيان. وكل ادعاء بأن أسباب الجرائم هي اجتماعية أو التهميش باطلة لأن هذه الجرائم تدل على احتراف للعنف، وعلى هوس الجشع، وانفلات الغرائز البدائية للغاب. فكيف لا يستاء البريطانيون لحد الخوف؟؟!! وكيف لن ينتعش اليمين العنصري البريطاني أكثر فأكثر؟؟!!
هذه سطور بالمناسبة، والموضوع ذو علاقة بموضوعنا الأصلي عن جريمة أوسلو وعلاقتها بالهجرة وعدم الاندماج، وفشل سياسات quot;التعددية الثقافيةquot; التي يرفع اليسار الغربي لواءها. وكما كتبنا مرارا، وكما يلاحظ الباحثون الموضوعيون في الغرب، فإن نزعات رفض الاندماج والقيم والقوانين الغربية، والميل للعنف منتشرة بوجه خاص لدى الجاليات المسلمة والأفريقية؛ وهذا ما يشجع كل أنواع التيارات والمجموعات اليمينية المتطرفة الغربية.
لقد كان رد فعل الحكومة النرويجية على جريمتي أوسلو تأكيدا على المزيد من الديمقراطية والانفتاح وعلى رفض التعصب، مع بعض الإجراءات الأمنية الجزئية. وكان رد فعل الجالية المسلمة في النرويج جيدا، كما روى لنا الأستاذ أحمد أبو مطر في مقال له، من تصريحات وتحرك بعض المساجد في الإدانة وفي التضامن مع الشعب النرويجي. وهذه المبادرة جديرة بالترحيب، وهي ظاهرة طيبة كمظاهرة الجالية العراقية في السويد في إدانة لجريمة العراقي تيمور العبدلي، رغم أن طرفي الجريمة مختلفان هنا وهناك. وكم كان سيكون رائعا ومطلوبا لو كانت مبادرات إيجابية من هذا النمط الإيجابي قد تمت- في حينه- في عواصم ومدن الغرب التي ضربتها، ببشاعة وعلى نحو كثيف، عمليات إرهابية إسلامية، من باريس، فنيويورك وواشنطن، فلندن، ومدريد وغيرهما؛ فالتصريحات الباهتة المعتادة، وذات التبريرات المبطنة، [وهي عادة من باب رفع العتب]، لن تؤثر إيجابيا على الشعوب الغربية لتحسين صورة المسلمين عند وقوع مآس وجرائم يتحمل بعض المتطرفين والإرهابيين المسلمين مسئوليتها، أو عندما يقومون بممارسات عدوانية واستفزازية كتلك الجماعة الباكستانية في بريطانيا التي تنوي إعلان quot; إمارة إسلاميةquot; في مدن بريطانيا، أو عندما يشتمون الجنود البريطانيين العائدين من الحرب، أو يواجهون بالشتم والقذف جثث جنود بريطانيين. إن عدم وجود ردود فعل واضحة وحازمة من الجاليات المسلمة في حالات كهذه، [وكما كتبنا في مقالات عديدة سابقة، وخصوصا في مقالاتنا عن تحديات الهجرة في الغرب]، يفسر إما بعدم المبالاة، أو بالموافقة الضمنية [ السكوت من الرضا]، بينما تشجع هذه العمليات والممارسات دعاة العنصرية والتطرف المعاكس، وقد تدفع بلفيف منهم لممارسة العنف. وهو ما حدث في بريطانيا نفسها سابقا.
على الصعيد الغربي، كانت إدانة جريمتي أوسلو عامة، بما في ذلك مواقف الأحزاب اليمينبة الشعبوية، وفي المقدمة الحزب التقدمي النرويجي الذي كان المجرم بريفيك عضوا فيه فترة ما ثم تركه لأنه وجده، حسب رأيه، ناعما وغير متشدد. واستغلت أحزاب يسارية غربية، كما في فرنسا، المناسبة لشن حملات على اليمين الشعبوي، المتمثل في فرنسا مثلا في حزب الجبهة الوطنية برئاسة مارين لوبين مع أنها لم تدل بتصريح سلبي، ولكن أباها quot;المتقاعدquot;، وهو نائب أوروبي، جان ماري لوبين، وصف تصريحات الحكومة النرويجية بquot; الساذجةquot; لأنها لم تمس جوهر القضية وهو، في نظره، الهجرة عموما، quot; وأسلمة النرويجquot; بوجه خاص. وللعلم فإن مارين، منذ ترؤسها للحزب، حاولت النأي به عن كل ما قد يوصف بالعنصرية والتطرف، ومن ذلك تهمة معاداة اليهود بينما راحت تتناول مختلف القضايا العامة التي تشغل بال كثرة من الفرنسيين، كأزمة اليورو، وما تعتبره خطر قوانين الاتحاد الأوروبي على السيادة الوطنية، وطبعا، وبشكل خاص، إثارة موضوع الهجرة غير الشرعية، والمطالبة بضبط الهجرة، أو حتى وقفها، مع الحديث المثير عن محاولات أسامة المجتمع الفرنسي، مستغلة تصرفات مسلمين تعتبرها تحديا للقانون وللفرنسيين، ومن ذلك الصلاة في الشوارع. ولكن مارتين تحذر من إدانة الإسلام أو المسلمين كجالية. وهذا التطور في الأساليب والخطاب جرى على أحزاب أوروبية شعبوية أخرى لها كثافتها الانتخابية ونجاحات انتخابية لا بأس بها. ولذا فمن العقم وضع علامة مساواة بين هذه الأحزاب والكتل البرلمانية ذات الأساليب السلمية وبين المجموعات العنصرية القريبة من النازية الجديدة، والتي تثرثر بصخب عن quot; صيانة العرق الأوروبي النقيquot;، من أمثال سفاح السويد. فالذين ينتخبون الأحزاب الشعبوية اليمينية ليسوا عنصريين ودعاة عنف، وإن كان قد يوجد بينهم من هم كذلك، بل حتى شرائح من العمال أنفسهم تنتخب هذا الحزب الشعبوي أو ذاك، كما حدث أكثر من مرة في فرنسا. ومن هنا، يحذّر العديد من الباحثين السياسيين الغربيين وضع هذه الأحزاب في خانة النازية الجديدة ومجموعات العنف، إذ هي قد تطورت مع الزمن لتصبح أحزابا برلمانية تدين العنف ولا ترفع شعارات عنصرية جارحة، فيما عدا تصريحات صارخة لزعيم الحزب الهولندي ضد الإسلام. ومعالجة تأثير هذه المجموعة من الأحزاب والشخصيات الغربية لا يتم بالاتهام والقذف، بل بمعالجة المشاكل التي تستغلها استغلالا مبالغا فيه، وهذا هو واجب الحكومات الغربية وواجب الجاليات المهاجرة، وعلى الأخص الجاليات المسلمة، المتهمة بأنها، مع الجاليات الأفريقية، ترفض الاندماج وتطالب بوضع فئوي وديني خاص بما يتعارض مع القوانين والقيم الغربية: كممارسة تعدد الزوجات، وتزويج القاصرات، وجرائم الشرف، وطلب المآذن، ولبس البراقع، والمطالبة بعدم تدريس هذه المادة الدراسية أو تلك- كما مثلا في فرنسا- وما يدخل في هذا كله، وهو ما يعتبر رفضا للاندماج ونقضا للهوية الديمقراطية والعلمانية الغربية. ومن هنا رأينا ميركل وكاميرون يعلنان عن فشل الاندماج وسياسة quot; التعددية الثقافيةquot;، وهو ما عبر عنه المصرفي الألماني زاراتسين بأسلوبه وخطابه الصادمين وحديثه عن خطر انقراض الألمان.
لقد عالجنا سابقا معنى الاندماج، وكيف أنه لا يعني الذوبان وطمس الأصل بل يعني الالتزام بقوانين ومبادئ الدولة الغربية التي تستضيف المسلمين، وتقدم لهم كل أنواع الضمانات، والحرية الدينية، والمساعدات الاجتماعية. إن شعارquot; التعددية الثقافيةquot;، العزيز عند اليسار الغربي، وحكوماته كحكومة النرويج نفسها، هو شعار ينطوي على تناقضات وقد طبق عمليا بالاعتراف بنوعين من القيم والممارسات، الغربية الأصلية وتلك التي يحملها المهاجرون معهم ويصر الكثيرون منهم على التشبث بها رغم انتقالهم لمجتمع ومحيط جديدين. ومؤدى كل ذلك هو تشجيع الفئوية، وإضعاف الشعور بالمواطنة في البلد المضيف. وهذا هو ما يساعد على قيام ما يشبه الجدران العازلة [ غيتوات ] بين السكان الأصليين وبين القادمين الغرباء، وخصوصا من المسلمين والأفارقة السود. واليسار الغربي يتحمل المسؤولية بتساهله ومجاراته، لاعتبارات أيديولوجية أو انتخابية. كما تتحمل الجاليات المعنية نفسها المسؤولية الأولى. وليس من الصدف أن الاستطلاعات الألمانية تظهر أن أكثر من 60 بالمائة من الألمان يحملون نظرة سلبية عن الإسلام والمسلمين، وفي فرنسا يقل العدد، ولكنه لا يقل عن 45 بالمائة حسب الاستطلاعات التي تبين أن نسبة كبرى من الفرنسيين تعتقد أن الإسلام يهدد القيم الغربية ويشجع التطرف والعنف وإخضاع المرأة [عن مجلة quot;فالير أكتويلquot; بتاريخ 28 يناير 2011 ].
ومن ردود الفعل اللافتة للنظر تصريحات منسق المركز الإسلامي الأوروبي للبحوث التي تزعم quot;بأن خطر القوميين [يقصد اليمين المتطرف والعنصري] يشكل تهديدا أكبر من تنظيم القاعدةquot;!! وفي هذا مبالغة فاضحة لأن تهديدات القاعدة ضربت العشرات من الدول وانتقلت من قارة لأخرى، وأدت عملياتها لعشرات الآلاف من القتلى والجرحى من غربيين مسيحيين وغير مسيحيين ومن مسلمين، وهو خطر لا يزال يهدد الغرب في كل لحظة في حين أن الجماعات والعناصر الغربية العنصرية أو النازية الجديدة مرفوضة في المجتمعات الغربية ومدانة من الحكومات والبرلمانات الغربية ويعاقب القانون الممارسات العنفية لبعض أفرادها. إن ضربة أوسلو قد سبقها تفجير أوكلاهوما، والمسافة الزمنية بينهما كبيرة، وهذا لا يعني التقليل من الخطر، بل إن الحكومة النرويجية تتحمل جزءا من المسؤولية لأنها لم تقدر بواقعية خطر نشاط هذه العناصر في البلاد والدول المجاورة وركزت فقط على خطر الإسلاميين الصوماليين وغيرهم- علما بأن دول الشمال لا تعير الأهمية المطلوبة لتقوية البوليس والأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
إن الادعاء بأن quot; خطر الإسلاميين بسيط مقارنة بخطر اليمن المتطرفquot; ليس فقط خاطئا، بل هو ذو نتائج عكسية. فالمناسبة كان يجب أن تدعو هذا الرجل وعقلاء المسلمين في الغرب للتوعية بخطر استغلال الدين ndash; أي دين- لممارسة العنف، وبمخاطر التزمت والتطرف الدينيين، ودعوة الجاليات المسلمة في الغرب لتعمل على الاندماج ولعزل دعاة العنف والرافضين للاندماج، ووجوب احترام المبادئ العلمانية والمثل الديمقراطية الغربية دون نسيان الجذور والأصل، كتلك الفلسطينية [ فرح ] التي استقبلتها كندا لاجئة لتقول إنها صارت فلسطينية أكثر من السابق: quot;في كندا تعرفت إلى نفسي أكثر. وأنا أعشق كندا بكل جوارحي وحلفت اليمين، حين حصلت على الجنسية، بحماية كندا والدفاع عنها عند اللزوم. وأنا أعي ما أقول.quot; [ عن مقال لزميلها هادي مرعي].
ومن نمط تصريحات من قلل من خطر القاعدة في الغرب تصريح المدعو إبراهيم هيويت، رئيس مؤسسة خيرية تدعى انتيال، بأن quot; اليمين المتطرف في ازدياد في شتى أنحاء غرب أوروبا وذلك بفضل تواطؤ الحكوماتquot;! فهل تساهلت الحكومة النرويجية مع بريفيك وتياره على حساب المسلمين؟!! أم إن ما يغذي التطرف العنصري هو التساهل مع بعض الممارسات الشائعة في أوساط مسلمي الغرب والأفارقة؟! وينقل لنا الأستاذ عادل درويش [الشرق الأوسط في 30 يوليو 2011] وقائع كثيرة عن صمت وتجاهل الإدارات اللبرالية واليسارية البريطانية لمسيرات quot; جهاديينquot; ضد بريطانيا، وعن غلق البوليس للطريق يوم الجمعة ليصلي المسلمون على الرصيف، وعن خطب ومواقع إسلامية تدعو لخلافة إسلامية في بريطانيا. المستشفيات تفصل ممرضات يعلقن صليبا مع أن التمريض ابتدعته راهبات في الأصل، ولكن هذه المستشفيات تنتهك قوانين الصحة عن توخي نقل العدوي عندما تسمح لباكستانيات بالعمل وهن لابسات حجابا فضفاضا يهدد بنقل العدوى. فكيف لا يستاء البريطانيون ولو بصمت وضبط أعصاب؟؟ وكيف لا يستغل المهووسون العنصريون هذا المواقف التي تجري باسم التعددية الثقافية والتسامح، بينا هو تساهل لا تسامح، أي تساهل مع القانون وعلى حساب القيم الغربية وأمن المواطنين. وأتذكر مقال الأستاذ عبد الرحمن الراشد عند وقوع تفجيرات لندن، مخاطبا الحكومة البريطانية quot;قلنا لكم امنعوهم، واليوم نقول اطردوهمquot;. وهذا ما يصح الآن على جرائم الأقلية من أفارقة لندن. إننا لو استعرضنا بانوراما الأحداث في الغرب في العقدين الأخيرين، لرأينا أن تطبيقات الديمقراطية الغربية وحرياتها وتنظيمات حقوق الإنسان جرى استغلالها على نحو مكثف ومتواصل من دعاة العنف والمتطرفين الإسلاميين ومن مقترفي الجنح والجريمة بين أبناء الهجرة المسلمة والهجرة السوداء.
إن تجاهل تحديات الهجرة في الغرب عامة، والتحدي الإسلامي خاصة، لا يطمس المشكلة، بل يعقدها. ففي أوروبا اليوم 44 مليون مسلما والمقدر وصول العدد إلى الضعف بعد عقود، ولاسيما مع الولادات الخصبة ووجود تعدد الزوجات. وإذا أضفنا ممارسات الأقلية المتطرفة والرافضة لكل اندماج وصمت الغالبية، مع حساب عواقب تفاقم الأزمة الاقتصادية والكارثة المالية ومعضلة البطالة في الغرب، لتبين لنا أن المشكلة شديدة التعقيد وان مواجهتها تتطلب من الحكومات الغربية سياسات حازمة رادعة ضد انتهاك القيم والقوانين، ولكن مع استمرار سياسة الانفتاح والحرية الدينية وقبول اللجوء السياسي المبرر، والعمالة الأجنبية عند الحاجة، مع تشديد الكفاح الفكري والسياسي ضد التطرف اليميني والعنصرية الغربية، وعدم التساهل مع مجموعات النازية الجديدة. أما من جانب زعماء ومثقفي جاليات الهجرة واللجوء، والمسلمين والأفارقة-[وبينهم مسلمون كثيرون]- فإن عليهم واجبات مضاعفة للحث على الاندماج وعلى عزل دعاة العنف والخارجين على القانون والقيم الغربية. وبغير ذلك، فسوف يزداد عدد المجموعات الغربية المتطرفة وسوف تزداد الأحزاب الشعبوية اليمينية شعبية وتأثيرا ومقاعد انتخابية، وربما شراكة في الحكم، لتنجح جهودها، في نهاية المطاف- في عمليات طرد بالجملة وفي غلق معظم أبواب الهجرة واللجوء وإن كان ذلك احتمالا غير واقعي في المستقبل المنظور.