في أواخر 2003، نشرت مقالا بعنوان quot; إيران تحرق شيعة العراقquot;. كان المقال تعليقا على التدخل الإيراني في العراق وتمويل وتسليح أحزاب ومليشيات، وخصوصا جيش المهدي، تتخذ من هويتها المذهبية الشيعية ورقة وجسرا للهيمنة على المجتمع والسلطة، ولممارسة العمليات الإرهابية. ولو نظرنا لسلوك نظام الفقيه، منذ تأسيسه، لوجدنا أن ما يسيّره في سياسته الخارجية هو مصلحة بقاء النظام وأطماعه الموروثة عن الشاه في العراق والخليج. كما أن كون أكثرية المعارضة الداخلية الإيرانية هم من الشيعة لا تحميهم شيعيتهم من حملات التنكيل والمطاردة. ومن أعدموا من ساسة الشيعة في العام الأول للثورة كانوا يعدون بالمئات، فضلا عمن هربوا وهاجروا، أو اغتيلوا في المنافي. وعندما يقول أحمدي نجاد منذ أيام، بلهجة تساؤل مفتعل، quot; كيف يمكن للحاكم ضرب الشعب بالسلاح!quot;، فإنه يضع نفسه بنفسه في مفارقة مضحكة ومأساوية، وأعني فتح قوات الباسيج وباسدران النيران على المتظاهرين الشيعة في طهران والمدن الأخرى ومطاردة الآخرين بالهراوات وسلاسل الحديد. ولا تزال دماء ضحايا 2009، وفي المقدمة ندا أغا سلطان، تصرخ باللعنة على القتلة. وإذن، فالحاكم الشيعي الحريص على الشيعة عليه أن يحرص أولا على الشرائح الواسعة من شيعة بلاده أولا، لا أن يعاملها بالحديد والنار لأنها تنزل للشارع وتتظاهر، فيكون عقاب التظاهر الإعدام.
وخرافة حرص النظام الإيراني على الشيعة يبينها أيضا استخدامه للزرقاوي في العراق مع أنه كان ينفذ أبشع الجرائم ضد العراقيين، شيعة كانوا أو سنة أو من غيرهم. فالنظام الإيراني مستعد للتحالف حتى مع المتطرفين من التكفيريين الذين يعتبرون الشيعي بمثابة الكافر، ومنهم القاعدة وطالبان- أضف تعاونهم مع الإخوان الحمساويين والمتطرفين الصوماليين.
إن شيعة المنطقة ليسوا كلا متجانسا في ميادين السياسة والفكر، فمنهم الإسلاميون التابعون لإيران أو السائرون في ذيلها، ومنهم اليساريون والديمقراطيون الإصلاحيون، وهم جميعا علمانيون، ومنهم المستقلون العلمانيون وهكذا. فإيران لا تقصد بالشيعة غير الإسلام الشيعي ومن يتبعه من جماهير بسيطة ومضللة. أما العلمانيون الشيعة، فهم لا مكان لهم تحت خيمة quot;البركاتquot; الإيرانية، ومهما حدث لهم في هذا البلد أو ذاك. فأمثال حميد موسى الشيعي العراقي أو الدكتور علاوي أو المثقفون العلمانيون العراقيون الشيعة، أو رجال دين منفتحون كالشهيد عبد المجيد الخوئي، الذي اغتاله أعوان إيران نفسها؛ هؤلاء وأمثالهم عند نظام الفقيه مرفوضون ومدانون. وعلى صعيد آخر، فإذا استعمل المالكي السلاح ضد المتظاهرين، فهذا عند نظام الفقيه مقبول إن لم يكن واجبا شرعيا، سواء كان الضحايا شيعة أو غيرهم. كما نعرف كيف عومل معظم المهجرين الشيعة العراقيين في إيران، من ضحايا حملتي التهجير الوحشيتين في العراق في بداية السبعينيات وبداية الثمانينيات، بحيث كانوا محرومين من حق العمل والتملك والتعليم.
هذه كلمات تقال بمناسبة الضجة الإيرانية حول أحداث البحرين، وهي الضجة التي وجدنا صداها عند الجعفري ومقتدى الصدر والمالكي وغيرهم في العراق.
إن البحرين بلد خليجي صغير وفقير، وقد عرف بالانفتاح والتسامح. ولكن هناك مشاكل عامة ومشكلة ذات خصوصية؛ فأما المشاكل العامة، فهي الحاجة للتطور والإصلاح الدستوري ومزيد من الانفتاح السياسي. وأما المشكلة الخاصة، فهي ذات طابع مذهبي، شيعي. ومع أن سلطة البحرين لم تمارس يوما ما سياسة اضطهاد مبرمج لشيعتها، فثمة مظاهر ومواقف تمييز غير معلنة، كما كان مثلا في العهد الملكي العراقي، ونعني عدم تبؤ السياسي الشيعي لمنصب رئيس وزراء أو مناصب عسكرية وأمنية كبرى، مع أن العراق الملكي شهد مرات قليلة رؤساء وزراء من الشيعة. وإذن، ومع مراعاة عدد الشيعة البحرانيين، فإن من المطلوب هو المزيد من الانفتاح على ساسة الشيعة وإفساح المجال أكثر لأبناء الشيعة في فرص العمل والوظائف المختلفة. ونعرف أنه كان للشيعة وزراء كما لهم عدد جيد من النواب، ونعني خاصة جمعية الوفاق التي هي الأكثر تمثيلا سياسيا للشيعة، وحيث يكاد عدد نوابها يتجاوز الثلث من المقاعد.
لقد بدأت المظاهرات والاعتصامات، التي شارك فيها مواطنون وساسة من السنة والشيعة معا، وبادر الملك لعرض الحوار، وكلف بذلك ولي العهد. فوافق فريق وامتنع آخرون مشترطين أولا إسقاط الحكومة. وهذا يعني فرض الشروط قبل بدء الحوار. وما هكذا يكون الحوار. ونحن نعرف كيف انتهت الأمور حتى اليوم، وسقوط الضحايا، ودخول قوات خليجية أخرى بموجب مواثيق مجلس التعاون.
الروايات تتضارب وتكاد الحقائق أن تضيع حين تسخن العواطف وتهيج وتشتعل، وخصوصا عند سقوط ضحايا العنف والنار وبوجود دوائر إقليمية تتصيد وتحرض. وبالاستناد لشهادة أجنبية محايدة، هي الصحيفة الفرنسية [لو فيجارو] لمراسلها في المنامة [ عدد 17 مارس الجاري]، نقرأ التالي عما وقع يوم الاصطدامات الأخيرة الدامية والمؤلمة حقا:
بعد الفجر، هاجمت قوات الشرطة ميدان لؤلؤة بإلقاء القذائف المسيلة للدموع واستعمال بنادق الصيد، فرد المعتصمون بقنابل مولوتوف. دامت الاشتباكات ساعة واحدة، احترقت خلالها الخيام ، وقد قتل ثلاثة متظاهرين وجرح آخرون، وقتل شرطيان سحقا عن عمد بسيارات المتظاهرين وهم يهربون. وفي مكان أخر، عند مجمع السلمانية الطبي الذي اعتصم فيه متظاهرون، منعت الدبابات سيارات الإسعاف من دخول المستشفى- كما كتب طبيب من المستشفى في رسالته للمراسل على هاتفه الخليوي. وأما السلطات، فاتهمت موظفي الإسعاف بأخذ السلاح للمعتصمين داخل المستشفى. ويقول المراسل إن هذا أيضا ما ثبت من مصادر مستقلة كثيرة.
هذا بعض ما ورد في شهادة المراسل، نورده للإشارة إلى تضارب الروايات ووجوب التمحيص والتدقيق قبل إصدار الأحكام. ولكن لا شك في أن القوات الحكومية بالغت في استخدام العنف، ولا شك أيضا في أن فريقا من المتظاهرين والمعتصمين كانوا مسلحين وهم الذين احتلوا المستشفى وحصنوه. أما عن الأحداث في المدن الأخرى، فلم يتطرق لها المراسل لبعده. كما نعرف عن وقوع مظاهرات جديدة بعد تلك الأحداث الدموية ولكن دون استخدام العنف. وقد ندد الشيخ علي سليمان، الأمين العام لحركة الوفاق، بالهجوم على دوار اللؤلؤة وقال إنه quot;عمل عسكري كما يفعل النظام الليبيquot;. و جرى تبادل الاتهامات، ومنها اتهام الحكومة للمتظاهرين بالاعتداء على عمال آسيويين واقتراف quot;أفعال وحشيةquot; بحقهم quot;من طعن بالسيوف والأسلحة البيضاء والضرب المباشرquot;. هذا وقد طالب الشيخ سليمان المتظاهرين بعدم استخدام المولوتوف أو التصادم مع رجال الأمن. ومما قاله نصا: quot; لا نريد أن نسفك دم شرطي واحد مجنس أو مرتزق لا قيمة لهquot;!!؟؟
مع كثرة الروايات المتضاربة لا يمكن تبيان الصحيح من الباطل بدون تحقيق ميداني محايد. هذا أولا. وثانيا، إن وقوع الضحايا من هذا الطرف أو ذاك هو حدث مأساوي. وثالثا لا حلول للمشاكل بالعنف بل بالحوار، وعلى حكومة البحرين أن تبذل كل ما في وسعها لإقناع الرافضين للحوار بحسن نواياها وبالرغبة الصادقة في القيام بالإصلاحات الضرورية، وخاصة نحو المزيد من إنصاف الشيعة. ورابعا، إن من قام بعمليات الاشتباك والإجلاء هم فوات بحرينية صرفة، أما القوات الخليجية القادمة، فهي في ثكناتها ولحماية المنشآت الكبرى. وخامسا، يظهر من عدة تقارير أن الذين أججوا الوضع وأشعلوه هم أقلية متطرفة، أي الحركة الشيعية المتشددة [ حق] وزميلتها [ وفاء]. والأولى كانت قد خرجت عن حركة الوفاق التي تلتزم بالاعتدال والعمل السلمي. وزعيم [ حق] المعتقل اليوم هو حسن مشيمع، وكان متهما بالإرهاب وصدر عنه العفو منذ وقت قريب. وحركتا حق ووفاء غير مرخص بهما، وكانا قد شكلتا مع حركة quot; أحرار البحرينquot; تحالفا لإسقاط الملكية وتأسيس الجمهورية.
تلكم بضع معلومات مستقاة من التقارير الصحفية، ولا نعني كل الحقائق بالطبع.
إن الضجة الإيرانية الصاخبة عن البحرين يقصد بها إشعال الفتنة الطائفية في المنطقة وصرف الأنظار عن الوضع الداخلي المتأزم في إيران، وعن سباق تسلحها النووي، ومحاولة الكسب داخل البحرين، التي تعتبرها إيران، منذ زمن الشاه ولحد اليوم، جزءا من إيران. وكان مساعد وزير خارجية إيران قد شكك في أغسطس عام 2008 في شرعية جميع الدول الخليجية وبقائها. أما التصريحات الإيرانية عن عائدية البحرين لإيران فلا تحصى. وكانت هيلاري كلينتون قد صرحت قبيل اصطدامات مدار اللؤلؤة بأن إيران تتصل بأعوان لها في البحرين- quot; نعم إنهم يتصلون بالمعارضة في البحرينquot;، كما قالت نصا في الثالث من الشهر الحالي .
إن البحرين وبقية دول الخليج بحاجة ملحة للإصلاحات السياسية والدستورية والاجتماعية والتعليمية، وهي إصلاحات تفرض نفسها فرضا، ولابد من تلبية كل مطلب شعبي مشروع، واعتماد الحوار عندما تكون المطالبات سلمية كما يدعو الشيخ سليمان. وقد كان البحرينيون دوما صفا وطنيا واحد يدين بالولاء أولا للبحرين، وهذا ما لا شك في أن غالبية المعارضة تعمل على صيانته وتعزيزه باستمرار، ورفض كل النعرات المفرقة من أية جهة وبأية صيغة. كما من واجب المعارضة السلمية، سنية وشيعية، عزل التيارات المتطرفة التي تصعد بسقف المطالب إلى إسقاط النظام وقيام الجمهورية [ الإسلامية؟؟!] عن طريق تأجيج المشاعر واستخدام المولوتوف واحتلال المستشفيات والمنشآت العامة. ولابد، في الوقت نفسه، من تحقيق نزيه في الأحداث التي جرت، والإعلان عن أية تجاوزات وقعت من جانب قوات الشرطة والأمن وإطلاق المعتقلين ممن لم يقترفوا أعمال عنف.
البحرين، كما قلت، هو البلد الطيب واللؤلؤة في الخليج، ولابد من الحرص على سلامة هذا البلد وسيادته ووحدته الوطنية، وكذلك تطويره إلى أمام بالإصلاح وعن طريق الحوار وبالعمل السلمي. وأما متاجرة إيران بشيعة البحرين، ودعايتها لنشر الفتنة الطائفية، فهما بضاعتان كاسدتان تملؤهما العفونة؛ ولكن يظهر أن نظام الفقيه يستغل الصمت الغربي والدولي- [ وهو صمت يثير التساؤلات المشروعة؟؟]- عن طغيانه وعن خطره النووي وعن تدخله في شؤون المنطقة، ولذلك يزداد عنجهية وصخبا. وهذا التساهل الأميركي ndash; الأوربي الغربي ndash; الدولي تجاه الطغيان والنووي الإيرانيين ستكون له عواقب أكثر خطورة ودمارا على أمن المنطقة كلها، وعلى أمن ومصالح الشعب الإيراني نفسه، وكذلك على المصالح الغربية، والنفطية بالأخص.
التعليقات