في مقالي ليوم 3 أيار الماضي، وقبل بدء المفاوضات المباشرة الفلسطينية ndash; الإسرائيلية، أيدت رأي الأستاذ عبد الرحمن الراشد القائل: quot;مباشرة التفاوض المباشر تستحق تجاوز كل الشروط المسبقة والتحفظات، بما فيها قضية هامة مثل المستوطنات. الدليل أننا ضيعنا كل هذه الأشهر الثمينة على أمل إقناع الوسيط الأميركي أن يضغط على الجانب الإسرائيلي فيلتزم بإيقاف بناء المستوطنات. أخيرا، وصلنا إلى الفصل الأخير من المطالبات العربية والمماطلات الإسرائيلية، واستحق الأمر اتخاذ قرار حاسم، المفاوضات أم لا، بغض النظر عن كل ما نتمناه.quot; [ الراشد في 22 سبتمبر 2009 في مقال الشرق الأوسط بعنوان quot; العرب ومصيدة المستوطناتquot;.]
خلال أكثر من عام، ورطت القيادة الفلسطينية، [وكان الاستيطان قد توقف لمدة عشرة شهور]، وإدارة أوباما نفسيهما وجهودهما في شرط وقف المستوطنات بدلا من الشروع ببدء المفاوضات المباشرة، انطلاقا من وقف الاستيطان المؤقت، ومن الاتفاق على خارطة طريق أنابوليس في نوفمبر 2007، زمن الإدارة الأميركية السابقة. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق قد قدم اقتراحات تتضمن حلولا وسطية حول الأرض والأمن والقدس واللاجئين، ولكن المفاوضات توقفت بسبب حرب غزة. وقبل ذلك، كان بيل كلينتون قد عرض على الفلسطينيين، بموافقة باراك، استرجاع كل أراضي غزة و94 بالمائة من أراضي الضفة الغربية، ولكن الراحل عرفات رفض.
لقد أعيدت المفاوضات المباشرة بعد ضياع شهور، وها هي تتوقف بسبب المستوطنات- علما بأنه لم يسبق دخول الجانب الفلسطيني في التفاوض بشرط مسبق، وكذلك ليس وقف الاستيطان، مرة أخرى، بالأمر المستحيل، تحت الضغوط، بدليل وقفه عشرة شهور. ومن وقائع الحياة المؤلمة جدا أن أكثر من 35 ألف عامل فلسطيني ساهموا في بناء جميع المستوطنات على مدار 23 عاما، بسبب البحث عن لقمة خبز وليس قبولا بذل المستوطنات [ تقرير ضاف عن الموضوع في الشرق الأوسط عدد 8 أكتوبر الجاري]
نعرف أن التعنت يأتي أساسا من اليمين الإسرائيلي المتطرف المسئول هو عن اغتيال إسحاق رابينن الذي كان داعية سلام. ونعرف أن في حكومة إسرائيل الحالية ممثلين متعصبين لمثل هذا اليمين المتطرف، المدني والديني، الحالم بالمضي قدما في التهام أراضي الآخرين.
والآن: ها نحن وقد توقفت المفاوضات. فما هي البدائل التي يجري الحديث عنها: حرب عربية؟- هي غير واردة أصلا، لا عربيا ولا دوليا. انتفاضة جديدة؟- قد تؤدي لمزيد من التدمير والخسائر البشرية، ونحن نعرف مدى قسوة الردود الإسرائيلية الدموية. إعلان الدولة الفلسطينية على حدود 1967 بموافقة دولية؟ لكن هل هذا عملي تحت موازين القوى الدولية الراهنة، وخصوصا ارتباك الوسيط الأميركي وانشغاله بالانتخابات القادمة؟ ثم هل يمكن فرض دولة، وبحدود كهذه، على إسرائيل دون تفاوض، أم أن ذلك سيعني الاصطدام المسلح. وحتى طرح الوزير الفرنسي كوشنر للموضوع جاء مشروطا بالتفاوض بين الأطراف المعنية.
اليمين الإسرائيلي المتطرف لا يريد حلولا منصفة، ولعله فرح بقطع المفاوض الفلسطيني للتفاوض بسبب عدم توقف الاستيطان، لكن من الخطأ توهم أن الوضع الإسرائيلي الداخلي، والضغوط الدولية عاجزة عن حمل إسرائيل نتنياهو على القيام بخطوات مهمة نحو حل الدولتين، وإن اعترافه بهذا المبدأ كان تطورا منه لم يكن بالحسبان. ومن قبله، نرى من كان أكثر منه صهيونية، ونعني بيغن الذي كان زعيم منظمة إرهابية، قد اضطر في حينه لإعادة سيناء لمصر والقبول بالسلام.
يعود الراشد للتعليق على الموقف الفلسطيني بعد الإصرار مجددا على ربط استئناف التفاوض المباشر بوقف الاستيطان. ففي مقال الراشد ليوم 28 سبتمبر 2010، نقرأ أن المفاوض الفلسطيني:
quot; يخطئ عندما اختزل مطالب الشعب الفلسطيني كلها في إيقاف الاستيطان الذي صار أقصى طموحاته! بذلك أسعد فريقين، الإسرائيلي المتطرف ، وحماس التي تريد تخريب أي عمل لا تشارك فيه. قزّم أبو مازن المطالب الشرعية الفلسطينية في مسألة واحدة هي وقف الاستيطان الذي هو أصلا عمل غير شرعي، وما بني على باطل فهو باطل. جعل وقف الاستيطان أقصى طموحاته بعد أن كانت تحرير الأراضي المحتلة، وحق اللاجئين في العودة، والقدس عاصمة، والسيادة، والدولة.quot;
في ظروف عالم اليوم، ليس من سبيل لانتزاع حقوق شعبنا الفلسطيني بغير التفاوض تحت رعاية أميركية ودولية. والدبلوماسية والسياسة أخذ وعطاء، وتنازلات متبادلة، وحلول وسطى، وهذا هو قانون المفاوضات. فلا يمكن انتزاع أقصى ما نريد، ولكن من الممكن انتزاع الحق في دولة فلسطينية ذات سيادة وقدرات وإمكانات. ولعلني ممن يحملون رأيا قد لا يقبله الرأي العربي السائد اليوم، وأعني أن الأفضل ترك الفلسطينيين والإسرائيليين وجها لوجه في التفاوض تحت مظلة أميركية وبرعاية دولية. أما تجارب التدخل العربي في الموضوع الفلسطيني، فقد قدمت لنا نماذج من استغلال القضية لمآرب أخرى غير المصلحة الفلسطينية: من تدبير الانقلابات باسم فلسطين، ومن قمع داخلي وحشي باسمها أيضا، ومن تجيير فصائل فلسطينية لهذا النظام وذاك، كما كانت الحال مع صدام، وكما الحال مع النظام السوري. ومع أن النظام السوري التزم الصمت عند بدء المفاوضات الأخيرة ورحب بزيارة ميشيل لسوريا، فإن الرئيس السوري سرعان ما أدان المفاوضات في بياناته وتصريحاته مع أحمدي نجاد في طهران! وعلى صعيد آخر، فإن غالبية وسائل الإعلام العربية قد شككت مسبقا في مبدأ التفاوض، سواء في مقالات أو تعليقات أو رسوم كاريكاتورية. وإذا كان اليمين الإسرائيلي المتطرف لا يريد أصلا أي حل عادل لصالح الشعب الفلسطيني، فإن شرائح واسعة من الشارع العربي والنخب وكثرة من الساسة العرب، هم أيضا يخافون من التوصل للسلام وإنهاء القضية، عبر حلها. وقد طرح هذه الإشكالية الأستاذ مشاري الذايدي في مقال بعنوان quot; ماذا لو حلت قضية فلسطين؟!quot; [ الشرق الأوسط في 10 أغسطس 2010 ].
الكاتب يرى أن بقية العرب يتعاملون مع الفلسطيني كبطل خارق، وبتهويل ومثالية، وليس كإنسان وبشر هو في نهاية الأمر يريد أن يعيش الممكن له في حياته بملبس ومأكل ومأوى حسن، وفوق هذا دون حروب أو قهر عسكري. أي إن العرب لا يتعاملون مع المأزق الفلسطيني واقعيا ويريدون من الفلسطيني أن يأتي بالخوارق. ومن الحكام من يريدون منه القتال وهم يتفرجون ولكنهم يدافعون عنه بالكلام، ويتاجرون ويزايدون، وهذ أيضا ما فعلته وتفعله إيران.

يقول الذايدي:
quot; هل يمكن التعامل مع القضية الفلسطينية كنزاع قابل للحل؟ أم هو نزاع عصي على الحل؟ وإذا كان مستحيل الحل، فلماذا الركض وراء السراب؟ ثم هل العرب جادون في محاربة إسرائيل وإنهاء وجودها من الأرض كما نسمع دوما؟ إذا كان الأمر كذلك، وهو ليس كذلك طبعا، فلماذا لا تركب السياسات العربية العامة على أساس الحرب لا السلام؟ نريد حربا ونريد سلاما وتنمية في نفس الوقت! هذا لا يمكن، كل ما يحصل هو فتح هامش واسع لمن يريد quot;حلبquot; القضية على مستوى حصد الشعبية في الشارع. ربما كثير من الجماعات والأصوات الإعلامية العربية ستفقد معنى وجودها لو حلت القضية الفلسطينية كما حلت نزاعات دولية أخرى من قبل...quot; وquot;لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون قصيدة أمل دنقل الشهيرة quot; لا تصالحquot; هي أنشودة الرفض العربي لأي إمكانية تفاوض أو حل سلمي للقضية الفلسطينية.quot; وهذا الموقف الرافض أصلا هو ما يميز عددا من التنظيمات الفلسطينية نفسها، وعلى رأسها حماس، التي يسيرها النظامان السوري والإيراني.

.