من لا يشعر بالذهول والصدمة أمام مشاهد الهول الأكبر في اليابانن ما بين زلزال مدمر وتسونامي تكتسح البيوت والقطارات والطائرات والسيارات والبشر وكأنها تكتسح علبا من ورق؟!

ومن لا يتعاطف من أعماق القلب، ويكاد يتمزق حزنا، وهو يشاهد الأطفال محمولين على أكتاف رجال الإغاثة بعيون متطلعة مستغربة، ولكن هادئة، وكأنهم يتساءلون من هؤلاء الغرباء، وأين الأمهات والآباء والأخوات والإخوة والبيت ولعب الأطفال؟! وأي هدوء أعصاب هذا الذي تواجه به اليابانيات، وحتى العجائز منهن، واليابانيون كارثة مأساوية تفاجئهم لتفتك وتدمر بلا حساب؟! أي شعب عظيم هذا الذي نراه هادئا صابرا دون وقوع حادثة شغب وعنف ونهب؟! ولكنه هو نفسه الذي خرج من قبضة الفاشية والحرب وهيروشيما بتصميم وإرادة على البناء والانفتاح على الديمقراطية والحداثة لتصبح البلاد في مقدمة الدول الصناعية بعد أميركا والصين، وفي مقدمة الدول الديمقراطية.

وكأنما لم تكف هذا الشعب الطيب المسالم ضحاياه البشرية بعشرات الآلاف وما لحق بلاده من دمار اقتصادي، ليفجع بنكبة مضاعفة بانفجارات المحطة النووية في فوكوشيما وتسرب الإشعاع النووي، الذي لا يزال مدى خطره على السكان غير معروف بالدقة اللازمة.

ونعرف أن اليابان، ذات التقنية العالية والاقتصاد المتقدم، قد اتخذت كل التدابير التقنية اللازمة لحماية منشآتها النووية، ومع ذلك فإن كوارث الطبيعة المفاجئة بحجمها وخطورتها، استطاعت إلحاق العطب الخطر بالمفاعلات النووية. ورغم أن الخطر لا يزال، حتى الآن، دون عواقب حادث انفجار النووي الأميركي عام 1979 وحادث تشرنوفيل في الاتحاد السوفيتي عام 1968، فإن ما يحدث اليوم في اليابان يعيد لمركز الصدارة موضوع المنشآت النووية ذات الأغراض السلمية. وقد انتهزت مجموعات الخضر اليسارية الغربية مصاب الشعب الياباني لتبادر للمطالبة بتفكيك المنشآت النووية في فرنسا والدول الغربية الأخرى، وكأن حوادث الانفجار قدر محتم وأمر واقع لا محالة- علما بأن ألمانيا جمدت العمل مؤقتا في منشآتها.

الحقيقة، في رأينا، أن القضية ليست بهذا التبسيط ذي النكهة الشعبوية والطوباوية. نعم، إن خطر الانفجار غير مستبعد ولكن احتمالاته نادرة في الدول الصناعية الكبرى ذات التقنيات المتقدمة الكفيلة بحماية المنشآت النووية، والدول الغربية ذات المنشآت النووية قد استفادت من تجارب تشرنوفيل والمفاعل الأميركي، وهي قد اتخذت، وتتخذ باستمرار، ما يلزم لمراقبة منشآتها وحمايتها. فالحالة الفرنسية مثلا ليست كحالة دول كإيران وسوريا من حيث التقدم التقني، ومن حيث الحرص على سلامة السكان وشعوب الجوار- فضلا عن أن دولا شمولية قمعية كهذه تستخدم مشاريعها النووية لأغراض الغطرسة العسكرية وإشباع جنون العظمة بالسعي لتصنيع القنبلة. ونعرف الحالة الإيرانية والتمرد على كل رقابة دولية وتحدي القرارات والعقوبات، مع أن آخر تقرير لمدير وكالة الطاقة الدولية يتحدث عن الأغراض العسكرية للمشروع الإيراني، كما ينتقد سلبية النظام السوري تجاه طلبات الرقابة الدولية.

إن المنشآت النووية في الدول الديمقراطية هي لأغراض الحصول على الطاقة غير ما يقدمه النفط والفحم، أي في إطار سياسة البحث عن الطاقات المتجددة، وهي سياسة تشجع عليها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، ومن أجلها انعقدت، وتنعقد، الاجتماعات والندوات. فالنفط ليس مادة لا تنضب أبديا، فضلا عن خضوع أسعاره للتقلبات السياسية والأزمات الاقتصادية، ويتحول أحيانا لسلاح للابتزاز كما هي حال تهديدات القذافي، وكما حال استخدام الروس لسلاح الغاز لابتزاز أوروبا والجمهوريات السابقة التي كانت ملحقة بروسيا. وفي فرنسا مثلا فإن الطاقة النووية تزود 80 بالمائة من الكهرباء للبلد، وهو مما يجعل السعر أقل من السعر في العديد من الدول الأوروبية الأخرى، وكل هذا ما تتناساه الدعوة الشعبوية للتخلي عن المنشآت النووية الفرنسية. ونضيف أن هذه الدعوة وأمثالها تتوجه فقط للدول الغربية دون إعارة أي اهتمام لحالات الدول العاتية المتغطرسة ككوريا الشمالية وإيران وسوريا، وكان سلامة سكان هذه البلدان لا تهم هؤلاء المثاليين الطوباويين، وكأن أخطار دول كإيران وكوريا الشمالية لا تهدد امن الغرب كله والأمن العالمي.

إن ما تجب حقا المطالبة به هو قيام الحكومات ذات المنشآت النووية بإعادة النظر دوريا في التدابير الأمنية التقنية لحمايتها، والكشف عن أي موطن خلل محتمل، وجعل ذلك مهمة الساعة وباستمرار، وبيقظة دائمة. وبالنسبة لمخاطر الانفجارات في دول مثل إيران مثلا، وهي التي ليست دولة ذات تقنيات عالية كاليابان والغرب، فتجب المطالبة بالتحقيق الدولي الفوري في منشآتها للتأكد من سلامة التدابير القائمة لحمايتها، وبالتالي، لمنع انفجارات تسرب إشعاعات قائلة لسكان العراق والخليج. ويبدو أن الجامعة العربية لا تعتبر هذه قضية تستحق مجرد الدرس، مثلما لم ترفع صوتا واحدا للتحذير من مخاطر القنبلة الإيرانية القادمة. وكيف تقوم الجامعة بهذه المهمة وهي من داخلها منخورة بالتحالف السوري الإستراتيجي مع إيران وبخوف العديد من الدول العربية من نظام الفقيه- ناهيكم عن علاقات العراق الذيلية بهذا النظام؟!

والخلاصة، نعم للطاقة النووية للأغراض السلمية بشرط توفر كل المستلزمات العلمية والتقنية المالية لصيانة المنشآت النووية وخضوعها باستمرار للرقابة، والتحري المنتظم عن أي مكمن ضعف محتمل. إن الحذر الدائم واجب، وواجب اتخاذ كل التدابير اللازمة، منذ الآن، لحماية السكان من احتمال وقوع انفجار ما، حتى لو كان احتمالا ضعيفا. كما أصبح مهمة عاجلة حظر نقل التقنيات النووية للدول غير الديمقراطية أو غير المتقدمة تقنيا وصناعيا.