عام كان مليئا بكبريات الأحداث المتفجرة والمثيرة. وقد توقفنا لدى كثير منها أولا بأول في مقالات سابقة. وسنكرس هذا المقال لأحداث المنطقة.
لقد كان 2011، وبحق، عام الرجات والانفجارات، بدءا بما عرف بعنوان quot;الربيع العربيquot;، المستمرة زوابعه وهيجانه الدموي، وتخبطه، وحيرته في أكثر من بلد من بلدانه. حالة مصر تستوجب قارئ كف لفك ألغازها، ما بين مظاهرات واعتصامات مستمرة، وطغيان انتخابي إسلامي، ومجلس عسكري لا يعرف طريقه، وأمن مهزوز، واقتصاد يترنح. اليمن، ورغم تنحي الرئيس السابق، مهدد بالانقسام وبتسلل القاعدة. ليبيا مزعزعة بين ثوار مسلحين يرفضون نزع السلاح لتشكيل جيش منسجم عصري، وبين اعتصامات ضد المجلس الانتقالي في بنغازي وطرابلس، فيما الإسلاميون، هناك أيضا، يزحفون باستمرار. وأما سورية، فلا داعي لتكرار مأساة شعبها المبتلى بنظام دموي لا يتردد عن نحر الآلاف والإصرار على المكابرة والمناورة. أما تونس، التي تبدو هادئة نسبيا، فلننتظر امتحان النهضة في الحكم وكيف سيكون التعاون بين الرئيس المرزوقي والحكومة الإسلامية، وإن كنت شخصيا أتوقع ألا يفي الإسلاميون بوعودهم الانتخابية، وان يحولوا الرئاسة لمنصب شرفي ليس إلا. ولا يمكن نسيان اعتداءات للسلفيين، وظهور ما يمكن وصفه بشرطة آداب دون أن يصدر من زعماء النهضة ما يدين هذه الظواهر. كما لا ننسى حديث زعيمهم عن أن العناية الربانية قد اختارت تونس منطلقا لقيام quot;الخلافة السادسةquot;! فلننتظر!
في كل مقالاتنا، منذ بداية الانتفاضات، كنا نؤكد على أن الثورة الحقيقية ليست في مجرد إزاحة حاكم مستبد ونظام فاسد، وإنما المطلوب السير لبناء جديد أفضل يتمثل في دولة المواطنة والعدالة وفصل الدين عن الدولة، واحترام حقوق الإنسان. وقد انتقدنا تعبير quot; ربيع عربيquot;، الذي سارع الغرب لإطلاقه على هذه الانتفاضات، وأبدينا المخاوف من احتمالات تحوله إلى شتاء كالح بعد أن برهن من سموا بشباب الثورة على كونهم أقلية في المجتمع وعلى فقدانهم لبوصلة فكرية شفافة ومتنورة ولرؤية سياسية ديمقراطية واضحة وواقعية لا مثالية طوبائية. ورأينا، ونرى، أن الثقافة السياسية العربية ليست - بوضعها الراهن - مؤهلة لبناء أنظمة ديمقراطية حديثة قائمة على مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان والتسامح والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة. إنها ثقافة المزايدات والشعارات الطنانة والعنف والزيف، والميل للإقصاء والإلغاء وأخذ الثأر في الشارع وليس أمام القانون. وما طريقة قتل القذافي إلا واحدة من الشواهد على أن quot; ثواراquot; ينتهكون القانون والعدالة بهذه الطريقة ليسوا مؤهلين للديمقراطية ولا هم قادرون على بنائها إن توفرت لديهم الإرادة، وهي على أية حال منعدمة. إن مفاهيم سيادة القانون والعدالة وحقوق الإنسان لا ينبغي تناولها والتعامل معها بانتقائية وازدواجية. وإذا كنا ندين بكل حزم سياسات الحكام المستبدين، ولاسيما الطغاة الدمويين منهم كالقذافي والأسد، ومن قبل صدام، فإن هذه الإدانة لا تعني الصمت عن التعامل مع هؤلاء الحكام عند سقوطهم بطرق وحشية وانتقامية مقززة، وهو أيضا حدث في طريقة تنفيذ حكم الإعدام الثأرية في صدام. ولنتذكر ما حدث- في بداية ثورة 14 تموز العراقية- للوصي ونوري السعيد وولده صباح. لقد سحلت الجثث في الشوارع، ومثل بها. وأما جثة نوري السعيد، فقد داستها بعد ذلك عجلات مدرعة عسكرية، وثم تم حرقها!! ولم يعترف quot; الثوارquot;، الذين قاموا بتلك الانتهاكات البشعة، بأخطائهم و يعلنوا الندم عليها. وما حدث للقذافي يذكر بأحداث العراق. وكل ذلك يذكر بالتراث العربي والإسلامي، quot; العامرquot; بعلميات القتل الوحشية والتعذيب البربري التي كان يمارسها الخلفاء والولاة، وقطع الرؤوس، وشوي الأحياء، وتناول الطعام على سجادة تحتها عشرات من جثث المقطوعة رؤوسهم بأمر الخليفة. كما أن ثقافتنا هي، فوق ذلك، أو قبله[!!] تستهين بالمرأة وتعتبرها دمية ومتعة جنسية لا غير، كما أنها تكره وتحتقر بقية الأديان وغير المسلمين لأن الدين الوحيد الصحيح عندها هو الإسلام، فهو وحده quot; دين الحقquot;!
ومن الصدف أن ينتهي العام برحيلين لهما صلة ما بهذا quot; الربيعquot;. هناك أولا رحيل فاتسلاف هافال، الزعيم التشيكي، الذي كرسنا له مقالا قلنا فيه إن الانتفاضات العربية تفتقر لساسة ومفكرين بوزن هافل أو إيخ فاليسا وأمثالهما من زعماء الربيع الحقيقي في شرق أوروبا، ذلك الربيع الذي لم تسفح فيه الدماء مدرارا كما جرى ويجري في شوارعنا العربية. وهناك رحيل الكاتب البريطاني quot;المشاكسquot; المثير للجدل، quot;كريستوفر هيتشنزquot;، وهو رحيل تجاهله المثقفون اليساريون العرب، برغم كثرة ما ينشرون ويفلسفون، مع أن الراحل كان يوما ما من الرموز اليسارية الغربية المعروفة [المعادية للإمبريالية] من أمثال ناعوم تشومسكي. وقد ناصر بحماس قضايا العرب والعالم الثالث. وصمت مثقفي اليسار عن هذا الرحيل هو لان الكاتب غير موقفه بعد 11 سبتمبر ورحب بالحرب في العراق. وقد كرس الأستاذ عادل الطريفي للكاتب الراحل مقالا متميزا في quot; الشرق الأوسطquot;، ورد فيه التالي، وهو مرتبط بموضوعنا:
quot; قبيل وفاته، كتب هيتشنز مقالة بعنوان quot; ما لا أراه في الثورةquot;، جادل فيه بأن تسرع العالم الغربي- بصحافييه وسياسييه- إلى الاحتفاء بالانتفاضات الشعبية التي ضربت العالم العربي، ومحاولة تشبيهها بسقوط جدار برلين، وquot; الموجة الديمقراطية الثالثة quot; التي ضربت أوروبا الشرقية، هو احتفاء مبالغ فيه. يقول هيتشنز :quot; لقد طلب مبارك بأن ينظر له بوصفه [ أبا]، ولكن وجد أنهم يفضلون بان يكونوا شعبا من [الأيتام]. هذه بالفعل لغة جديدة، لغة المجتمع المدني التي هي مجهولة ndash; تقريبا- في العالم العربي وهو غير متمكن منها. علاوة على ذلك، بينما قد يكون الجسم القديم موجعا في هذا المخاض، فإن عددا من القابلات قد حضرن للولادة، ولكن من الصعب جدا العثور على نبض الجنين.quot;[ كتبه في أبريل 2011 ]....quot;
هذا تقييم مثقف كان لأكثر من ثلاثة عقود موضع اهتمام اليسار.
لا يمكن أيضا ألا نمر على موضوع الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية مستقلة بصيغة العضوية في المنظمات الدولية. فالاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة معتمد دوليا منذ سنوات طويلة، وقد أبرزها بقوة جورج دبليو بوش في بداية ولايته الثانية، كما ورد في واحد من مقالاتنا. أما رفع علم فلسطين فوق المنظمات الدولية الحكومية، فقد جربها الفلسطينيون والعرب في اليونسكو، فإذا هي اليوم عاجزة عن دفع مرتبات موظفيها لشهرين، مع أن دولة قطر وحدها تصرف عشرات الملايين على سباقات كرة القدم! وهذا موضوع يستحق هو الآخر معالجة مستقلة وضافية.
أما عراقيا، فقد كان العام هو الذي انتهي بالانسحاب العسكري الأميركي، وبالقنبلة الانشطارية التي فجرها السيد المالكي ضد بعض الكبار من خصومه السياسيين من الطائفة السنية. وما يحدث اليوم في العراق يثير كل القلق المشروع. فالفترة القادمة مفتوحة على احتمالات كارثية ما بين حرب طائفية وتفتيت للعراق، وتحوله لساحة مفتوحة يمارس منها النظام الإيراني مناوراته وتحركاته، بعد أن بلغ به الهيجان والقلق والعنجهية أن راح يهدد بغلق مضيق هرمز ويجرب صواريخه القريبة والبعيدة المدى في الخليج، في الوقت الذي يواصل فيه إصراره على تصنيع قنبلته النووية، فيما إدارة أوباما، المشغول كليا بالولاية الثانية، تكتفي بتهديدات لا تردع ولا تحسم، [ لنا عودة لهذا الموضوع].
لقد برهن حكام العراق خاصة، والطبقة السياسية العراقية عموما، على فقدان الشعور بالمسئولية الوطنية؛ وبدلا من الانطلاق من هموم الشعب وحاجاته الأساسية ومستلزمات بناء عراق ديمقراطي متطور، نراهم منهمكين في الصراع على المناصب والمغانم. والأمور- كما يبدو- تنذر بخطر الانتهاء إلى حكم الفرد الواحد على طريقة صدام، ولكنه هذه المرة سيكون حكم الفرد الإسلامي وليس القوماني! والعراق الغني بالخيرات قد تحول شعبه لحالة شعوب أفريقية بائسة فقيرة، وتحولت عاصمته الجميلة لمدينة القمامة.
إنها أولا مسئولية العقلية السياسية العراقية، عقلية العنف والإقصاء والمكابرة، والتي لها جذورها في كل تاريخنا العراقي الحديث.
إن العالم العربي، والمنطقة عموما، سائران للمجهول، كما هو أيضا الحال مع مآل منطقة اليورو الأزمة المالية والاقتصادية الغربية. وهو موضوع يستحق مقالات جديدة للمختصين.