في مقال متعمق يكتب حازم صاغية كيف صار العرب مجمعين، منذ أواسط القرن الماضي، على ثلاثة مفاهيم ومعان، أو عناوين: quot;الإسلامquot; وquot;القومية العربيةquot; وquot; فلسطينquot;، بحيث غابت، مع الأحداث والوقت، مفاهيم الوطن والمواطنة والدولة الوطنية. والمفارقة أن أكثر المتعاملين بهذه العناوين من حكام ونخب هم الذين قدموا تطبيقات مشوهة لما يعلنون عنه، بل وبما يشكل الضد.
فرضية صاغية هذه تصلح لقراءة وتفسير الكثير من التطورات والأحداث العربية الماضية والقائمة.
مثلا يمكن الاتفاق مع ملاحظة أن دعاة العروبة والوحدة من الحكام قد انتهوا إلى البغضاء والاحتراب وquot;الانفصاليةquot;. كما أن دعاة الحل الإسلامي، من المذهبين، هم من يشجعون الطائفية لتمزيق المسلمين، وهم، حين يتسلمون الحكم يفرضون نموذجا شموليا مغلقا باسم الدين يصادر الحريات الفردية والعامة. ومنهم من يرفعون شعارات تصدير نموذجهم الإسلاموي العدواني والإرهاب. وهذا ما يفعله أيضا الإسلاميون من غير العرب كإيران وطالبان، ناهيكم عن عرب ومسلمي القاعدة. أما الحكام العرب والمسلمون الذين تاجروا، ويتاجرون، باسم فلسطين فقد برهنوا على quot;حرصهمquot; على هذه القضية quot; المركزيةquot; بمساع وسياسات التدخل في شؤون الفلسطينيين، وتقسيم صفوفهم وتنظيماتهم، واستخدام اسم فلسطين للمتاجرة ولإشغال شعوبهم عن المظالم الداخلية وعن الفساد وفشل التنمية واستفحال الفقر.
لقد اصطنع نظام الأسد واحتضن تنظيمات فلسطينية متطرفة تكون طوع حساباته ومصالحه، ولو كان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني. وهذا أيضا ما فعله صدام بخلق جبهة التحرير وما سمي بجيش القدس. وهذا ما تفعله إيران أيضا بفيلق قدسها الإرهابي الذي ينشر الموت والخراب والتجسس في المنطقة، وحين كانت تنادي بأن تحرير القدس يمر عبر كربلاء. وإذا كان شعار quot; تحرير كامل التراب الفلسطينيquot; قد انحسر بصيغته الصارخة القديمة، [ إلقاء اليهود في البحر]، فإن أنصاره اليوم يعبرون عنه بصيغ وبأساليب أخرى، وخصوصا في المواقف العملية الرافضة لمساعي الحلول السلمية. أصحاب أيديولوجيا القومية العربية كانوا يدعون لوحدة عربية شاملة ويجرّمون الدولة الوطنية، ويسمون كل بلد عربي بquot; القطرquot;. كذلك الإسلاميون، لا يؤمنون بشيء اسمه وطن وشعب ما داموا يعتقدون بأن كل المسلمين- من عرب وغير عرب - هم quot;أمة واحدةquot;، quot; الأمة الإسلاميةquot;. وهذا لا يناقض ممارساتهم السياسية التكتيكية داخل كل بلد من بلدانهم والحديث عن الشعب والوطن مع أن هدفهم الحقيقي هو بناء الدولة الإسلامية الكبرى، إن كانت دولة الخلافة أو من طراز دولة ولاية الفقيه ومركزها طهران وقم. وهم يستغلون شكليات الديمقراطية كالانتخابات للوصول التدريجي للهدف البعيد quot; المضمرquot;. ومنذ أيام صرح مفتي مصر خلال برنامج ألماني تلفزيوني بأنه لا يثق بالإخوان لأن لديهم أجندة سرية [ لم ينشر ذلك في الإعلام العربي كما لم ينشر غير ذلك من أخبار لا تعجب هذا الإعلام*]!!]
لقد أدت ممارسات ودعايات أكثر من نصف قرن إلى غسل عقول الجماهير العربية بحيث أن أي حاكم مستبد هو في مأزق عصيب مستحكم قد يحاول، في لحظة من اللحظات، تحويل مشاعر الجماهير وهمومها واحتجاجاتها العارمة بعيدا عن ظلمه وفساده وعن المطالبات الشعبية المشروعة، وذلك بالتلاعب باسم الدين، أو المذهب، أو باسم فلسطين، وأعني افتعال معركة ما أيا كانت ضد إسرائيل، بالواسطة أو مباشرة. وقد حاول النظام السوري في منتصف العام المنصرم اللجوء للورقة الإسرائيلية لقتل الانتفاضة، ونقصد التسخين المؤقت لجبهة الجولان. ولكنه لم يستطع المضي قدما في المناورة خشية أن تنقلب عليه بضربة إسرائيلية ماحقة. وفي حينه كتب عبد الرحمن الراشد مقالا بعنوان quot; الغريق السوري والاستعانة بإسرائيلquot;. ولكن اللعب بهذه الورقة من جديد، ومع اشتداد أزمة النظام، قد يكون محتملا، وهذه المرة بمغامرة تحت شعارquot; لوهيك، لو هيكquot;؛ أي أما الغرق التام وأما بصيص خلاص-[ وهم خلاص]. ومثل هذا التلاعب بالورقة الإسرائيلية محتمل أيضا من جانب النظام الإيراني إن ضاقت به الأحوال لحد الخنق، وهو يعرف أن أي صدام بإسرائيل، بمبادرة منه أو بضربة إسرائيلية، ستجعل العرب والمسلمين ينسون مؤقتا همومهم الساخنة ومواضيع الحرية والديمقراطية والبطالة والفقر والقمع، وينسون تهديد القنبلة الإيرانية والتدخل الإيراني التخريبي، وذلك مادام الطرف الآخر هو العدو الأزلي الأبدي- إسرائيل. وهذه الورقة تجمع في الوقت نفسه عناوين الدين، والقضية quot; المركزيةquot;، ورفض الغرب ndash; لاسيما أميركا- وحداثته وديمقراطيته quot; المستوردةquot;!
إن المجتمعات العربية قد تراجعت إلى وراء، فكريا وسياسيا واجتماعيا، خلال العقود الأخيرة بفعل الأيديولوجيات الغوغائية وسياسات الحكام والمتاجرة باسم الدين والمذهب والقضية الفلسطينية. لقد تراجع مبدأ المواطنة حتى تهمش تماما لحساب التقوقع المذهبي أو الديني أو الحزبي. وصدق الأديب العراقي حميد الخاقاني حين كتب عام 2006 خطابا طويلا صريحا للسيد علي السيستاني منتقدا تبني المرجعية الدينية الشيعية للقائمة الانتخابية الموحدة للأحزاب والكتل السياسية الشيعية. وقال الكاتب في خطابه: quot; الطائفة لا تخلق وطناquot;. فالوطني العراقي هو عراقي أولا، وانتماءاته الأخرى، ومهما كانت هامة، تأتي في المرتبة التالية. وحين يتحدث رجال دين أو ساسة عراقيون من الشيعة عن quot;حاكمية الشيعةquot;، فإنهم هنا ينقضون المبدأ الأساسي للدولة الديمقراطية المدنية. ولا أريد هنا التعليق على ما نسب للسيد المالكي من تصريحات قيل إنه أدلى بها للغارديان (انقر هنا): quot; أنا شيعي أولا وعراقي ثانياquot;. وقد علقت صحيفة القدس العربية على ذلك، ولكن الأفضل انتظار توضيح من مكتب المالكي أو تكذيب قبل التسرع بالتعليق على موضوع هام كهذا.
نقول مرة أخرى إن أفق الديمقراطية في البلدان العربية ضيق للغاية برغم كثرة الحديث عنها كل يوم. ولا يزال ممكنا أن تقع الجماهير في فخاخ حكام [ كالأسد ] يلجئون لهذه الورقة و تلك من أوراق quot; الثلاثي quot; إياه، بأمل أن ينقلب اتجاه الشارع ومشاعره وغرائزه وجهة أخرى غير وجهة المطالبة بالحرية والعمل والعدالة الاجتماعية وبترحيل الحاكم الظالم. ولكن كم سيدوم نجاح مثل هذه المناورة ndash;المغامرة لو نجحت ؟ وبأي ثمن [ علي وعلى أعدائي؟!]

ملحق:
من نماذج ما تتجاهله عمدا الصحافة العربية نتائج استفتاء قام به في فبراير 2010 quot;المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي العامquot;. وكان المركز قد وجه الاستبيان لسكان القدس الشرقية من عرب فلسطين حول موقفهم في حالة قيام دولة فلسطينية مستقلة بجوار إسرائيل. وحسب النتائج التي نشرتها مؤخرا مجلة فرنسية فإن 70 بالمائة أجابوا بأنهم سيفضلون البقاء مع إسرائيل! والأسباب التي قدموها هي الاحتفاظ بمستوى المعيشة وبالحرية مع أن الأكثرية تشكوا في الوقت نفسه من المضايقات ومن نظرات عنصرية.[ أوردت ذلك مجلة quot; فالير أكتويلquot; الفرنسية Valeurs Actuellsفي عددها بتاريخ 15 سبتمبر المنصرم.