ماذا قال وزير الداخلية الفرنسي، الذي يسميه تقرير إيلاف بquot; الشرطي الأولquot; سخرية واحتقارا؟
قال إنه يفضل الحضارة التي لا تحرض على العنف وتحترم حقوق المرأة. وقد حاول الاشتراكيون انتهاز الفرصة لكسب أصوات المسلمين الفرنسيين بزعم أن التصريح المذكور يقصد به المسلمون، ولكن الزوبعة سرعان ما خفتت، وكادت تتلاشى. وانبرى نائب من إحدى المحافظات الفرنسية ذات الغالبية السوداء لكي يوحي بأن التصريح هو ضد الأفارقة، وذهب لحد وصفه بالدعاية النازية- مما أثار استهجان البرلمان الفرنسي.
الحضارات البشرية تلاقت وافترقت على مر التاريخ، وأخذ بعضها من بعض، كما حال الحضارة العربية ndash; الإسلامية التي اغتنت بالتراث اليوناني والروماني والفارسي والهندي. وفي كل حضارة جوانب سلبية وإيجابية، والمهم أية جوانب هي الغالبة.
ونظرا لما قد يحدثه استخدام مصطلح حضارة من التباس، فالأفضل استخدام مصطلحي ثقافة وقيم، وهي في الحقيقة لب كل حضارة.
نعم، الوزير [غيان] كان يقصد تفضيله للقيم الغربية والثقافة الديمقراطية الغربية. وهذا حق مطلق له. وأقول إن العديد من المثقفين العرب والمسلمين يتفقون معه على تفضيل القيم والثقافات التي تحترم المرأة، وتتسامح مع الآخر، ولا تحرض على العنف، وتأخذ بالأساليب والمؤسسات الديمقراطية في إدارة المجتمعات وبالتداول السلمي للسلطة.
إن المجتمعات الغربية التي تأخذ بالقيم والثقافة الديمقراطية، وتشكل أسانيد أنظمتها لا تخلو من تيارات وقوى ذات قيم متطرفة ورجعية وإقصائية، كما رأينا في جريمة النرويج مثلا؛ ولكن الديمقراطية الغربية هي التي تحظر وتحاصر وتقاوم أمثال هذه التيارات والقيم، وتحاسب قضائيا حملتها إن اقترفوا ما هو ضد القانون. والديمقراطية الغربية هي التي حاربت الفاشية والنازية وانتصرت عليهما. والستالينية الدموية هزمت هي الأخرى أمام تطلعات الشعوب السوفيتية والشرقية نحو الديمقراطية والانفتاح.
مصيبة غير قليل من المثقفين العرب، المنحازين سلفا سياسيا، أنهم ينجرفون- بقدر ما يتعلق الأمر بفرنسا- وراء كل هيصة انتخابية يريد اليسار تفجيرها لاعتبارات انتخابية، وإلا فما قاله الوزير الفرنسي هو بالضبط ما يعتقده الاشتراكيون وكل اليسار؛ بل نتذكر الضجة عندما تحدث سركوزي عن [العلمانية الإيجابية]، فهاجمه اليسار قائلين إن المقصود هو محاباة الإسلام ومسلمي فرنسا. وإذن فلكل مناسبة وظرف حديث وموقف!
إن من مصلحة الإسلام والمسلمين مكافحة الممارسات والنزعات التي تعتبر المرأة عيبا ورجسا ومجرد أداة جنس، وتفرض عليها القيود بعد القيود حتى في الغرب، والتي تبيح خطبة الرضيعة وتزويج الفتاة القاصرة. وإن من المصلحة مكافحة التيارات والقيم والثقافة التي تدعو للتطرف الديني وكراهية غير المسلم وللانغلاق باسم الأصالة، أو للانتقام الشارعي- كما حدث مثلا في مقتل القذافي، ومن قبل في العراق، أيام ثورة 14 تموز. ومن المصلحة أن نعيد النظر نقديا وبجرأة في تقييم التاريخ العربي والإسلامي لنميز بين الصحيح وبين الكم الهائل من الممارسات والأحداث التي لا تشرف حضارة ما: كسبي النساء واتخاذهن جواري وإماء ، وتدمير المكتبات، وتحويل الكنائس إلى مساجد، وتمجيد فريق من السفاكين من أمثال خالد بن الوليد، وخلفاء دمويين اقترفوا جرائم كبرى، سواء من بين الخلفاء الأمويين أو العباسيين. وهل يمكن طمس ما فعله يزيد بن معاوية أو مسلم بن عقبة المري في المدينة المنورة حين استباح جيشه المدينة ثلاثة أيام حبلت فيها ألف عذراء من سفاح واغتصاب علني. و الحجاج كان يعدم النساء ويسمح للجنود بالاغتصاب الجماعي. والعباسيون ذبحوا من أهل دمشق خمسين ألفا من الأبرياء، وحولوا المسجد الأموي إسطبلا لخيولهم. و أبو العباس السفاح ذبح العشرات من الأمويين، ثم أمر بوضع الخوان والبسط على جثثهم، ومنهم من كانوا يحتضرون، ثم أمر بالطعام ليأكلوا فوق الجثث- [ ملاحظة: أورد السيد القمني كثيرا من هذه الأحداث المخزية في مقال يرد فيه على محمد عمارة المطالب بعود quot; الدولة الإسلامية.quot;] وفي مقال لمشعل السديري بالشرق الأوسط قبل سنوات ، وتحت عنوان quot; اكتبوا التاريخ كما هوquot;، أشار إلى مقاتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وإلى مجزرة أبي العباس السفاح الوارد ذكرها.
لقد اعتذرت أكثرية الكنائس الغربية عن الحروب الصليبية، ولكن المرجعيات الإسلامية لم تعتذر يوما عن الغزوات التدميرية، وسبي النساء بالجملة وإجبار غير المسلمين على الأسلمة وتدمير الكنائس. واعتذرت ألمانيا بعد النازية عن جرائم هتلر، ولكن زعماء تركيا يثورون غضبا عندما تدان مذبحة الأرمن التي جرت في غير عهدهم.
لقد كتبت بتكرار أن الثقافة والقيم والممارسات السائدة في العالمين العربي والإسلامي لا تنجب ديمقراطية سليمة؛ فكراهية الآخر، ونزعات الإقصاء والاجتثاث، واستغلال الدين لمآرب سياسية إنما تعيق التقدم نحو الديمقراطية والدولة المدنية. فالعبرة ليست بالتصريحات وما يعلن من شعارات ويقطع من وعود وتعهدات، وإنما العبرة في الإيمان الحقيقي بالقيم والثقافة الديمقراطية وبالحداثة، وفي الجدية في الممارسة والتطبيق.
اجل، للديمقراطية الغربية مساوئ، ولكنها هي التي تشق طريق التقدم الفكري والعلمي والازدهار، وتعيد للإنسان اعتباره كإنسان ومواطن. وعندما يتواصل ذبح السوريين بالجملة، فإن أنظار المعارضة تتجه للغرب لوقف سفك الدماء، كما توجه الليبيون عندما كانت بنغازي على وشك التدمير، وإن عودتنا الممارسات والثقافة العربية على كونها نموذجا لنكران الجميل- كما يحدث في بغداد اليوم من عربدة صدرية وغير صدرية بالوكالة عن النظامين السوري والإيراني!