يكتب هذا المقال يوم اجتماع مجموعة أصدقاء الشعب السوري، الذي لا شك في أنه سيواجه معضلة كبرى للتعاطي مع الوضع السوري الخطير، وفي وقت لا يبدو فيه احتمال للتدخل الخارجي قائما. كما أعتقد أنه حتى تسليح المعارضة مشكلة شائكة وقد تكون أضراره أكثر مما يتوقع.
إن فضيلة الانتفاضات العربية كونها أسقطت جدار الخو، وفتحت أبواب المطالبة بالحرية والعدالة والعمل ومكافحة الفساد. وفي الوقت نفسه، لابد من الإشارة إلى ظاهرة اختلاط المصطلحات والمفاهيم، وظاهرة تملق الجماهير لحد عدم التمييز بين الشعب والرعاع [ حثالة البروليتاريا على حد وصف ماركس]، والحساسية المفرطة التي تثيرها أية ملاحظة انتقادية لسلوك الشباب الثوري، المهووس بالتظاهر الدائم، تاركا الساحة للإسلاميين والانتهازيين، أو أية إشارة للتناقض بين طبيعة بعض الأنظمة العربية- التي تفتقر لأوليات الديمقراطية- وبين تصدرها المتحمس باسم الشعب السوري والمعارضة ااسورية!
عندما يستمر القمع الدموي الوحشي في سوريا، تستمر محاكمة مبارك في القاهرة. وحين أتحدث عن اختلاط المصطلحات والمفاهيم والتوصيف، فلكي أؤكد مثلا على أن مبارك غير بشار الأسد، وغير القذافي، وإنه لابد من التمييز بين أنواع الاستبداد والمستبدين. مبارك كان حاكما فرديا، تورط بعض أفراد عائلته في الفساد، وأراد توريث الرئاسة لابنه. وكان يعتقد أن ماضيه الوطني وخدماته لمصر كافية لضمان حب الشعب ورضاه ومهما فعل، وذلك بنوع من السذاجة. لكنه لم يكن ديكتاتورا دمويا، ولم يواصل الوقوف في وجه الانتفاضة بشراسة وإلى النفس الأخير، بل تراجع- ولكن بخطوات- وترك الرئاسة، ولو متأخرا. وربما كان بالإمكان حينئذ التوصل لحل وسط وانتقالي، بقيادة عمر سليمان، يضمن الحريات كما يضمن الأمن وحماية الحدود ويضمن الانتقال السلمي التدريجي نحو الحكم المدني الديمقراطي البرلماني، وذلك بالعكس مما حدث فعلا من هيجان دائم للشارع، وتعطيل للأعمال والسياحة، وتفاقم العنف والجريمة والعدوان الديني، والاتفاق الضمني بين العسكر والإسلاميين، ودخول إيران على الخط من خلال علاقاتها بالإخوان وبقية الإسلاميين. نعم، مبارك لم يطن طاغية دمويا لكي يطالب عشاق العنف والثأر بإعدامه في الساحات العامة. والأمر نفسه، كما أرى، ينطبق تقريبا على حكم بن علي في تونس. فهو الآخر لم يكن طاغية دمويا، بل كان حاكما فرديا تورطت عائلته في الفساد، ولكنه ترك السلطة بسرعة. واليوم فإن تونس تمر بسلسلة أزمات بعد أن هيمن الإسلاميون على الساحة والبرلمان، وهم في طريقهم لأسلمة المجتمع فيما غرائز الثأر هائجة. والسؤال: هل الوضعان المصري والتونسي اليوم أفضل للطموح الديمقراطي وللعدالة ولأمن المنطقة والعالم؟؟
لقد تحدث يوما ما الكونت الفرنسي quot;دي مارينشquot;، المسؤول الأسبق عن المخابرات الفرنسية الخارجية، عن الشاه، وكان دائم الصلة به. وقد حكم عليه بأنه لم يكن حاكما ديكتاتوريا بل كان أتوقراطيا فرديا، معزولا عن الشعب، ويصدق ما يقوله المتزلفون المقربون منه. وقال مرة للمسؤول الفرنسي- الذي حذره من تفاعلات المجتمع والانتهاكات- : quot;أنت وحدك تقول لي هذا.quot; ويقول دي مارينش إن الدكتاتور ما أن يصرخ أول رجل دين هائج حتى يقمعه. أما الأتوقراطي الفردي، فإنه يسمح له بالصراخ ليأتي بعده رجل دين أخر ليصرخ بدوره.
على كل، فالوضعان المصري والتونسي لم يكونا بالسوء الذي كان عليه وضع إيران زمن الشاه، وكانت في البلدين درجة لا بأس بها من الحريات الحزبية والصحفية وحقوق المرأة، ودرجة كبيرة من النمو الاقتصادي. وكان هناك من يسخرون من جمال مبارك والتوريث في التلفزيون نفسه.
إذن، فلا مقارنة مع النظام السوري، لا زمن بشار ولا زمن حافظ. ولا مقارنة بصدام أو القذافي أو البشير، جلاد دارفور وهو المطلوب للعدالة الدولية. ولا مقارنة بنظام آخر مغلق كنظام الفقيه.
في فترة ما كان اليسار العراقي يتهم عبد الكريم قاسم بالدكتاتورية. وعبد الكريم هو نموذج آخر للحاكم الفردي، ولكنه فريد جدا من نوعه. إنه كان حاكما وطنيا فرديا تملكته درجة من النرجسية، وكان من حبه لشعبه وتفانيه في الحب اعتقاده أن كل ما يفعله سينال رضا الجميع. وقاسم كان عادلا ونزيها، ولا يحب سفك الدماء، بل كان يرسل القوات الحكومية لحماية مظاهرات تهتف بسقوطه. ويتناول الباحث والسياسي حسن العلوي نفس الموضوع الذي هو محور هذا المقال، في كتابه المعنون quot; العراق الأمريكيquot;، وهو يتحدث عن صدام حسين. وفي رأيه أن الديكتاتور يعمل لتكريس سلطته وسطوته، وquot; قد يحتاج في مرحلة من مراحله إلى إصدار قرارات وإجراءات، وربما الدخول في مواجهات مع الدول العظمى، وتحالفات مع القوى الشعبية والاشتراكية لكسب مشاعر الناس ونيل ثقتهمquot;- كما فعل حكم البعث العراقي في السنوات الأولى من حكمه الثاني في السبعينات. إن الحاكم الفردي الوطني quot;نرجسي بسيط يعتقد أن جميع الناس يحبونه، وهذا ما لا يعتقد به الديكتاتور الذي يشك في ولاء من حولهquot;. والديكتاتور:
quot; لا يرضى بالقليل. إن سمعه ثقيل، ولسانه طويل، مقتحم غير متردد، ونسيجه محبوك غير قابل للاختراق. وهو دائما ضحية قراره، فهو إن قرر لا ينثني، وقراراته تتصاعد بوتائر عالية. إنه لا يعود إلى نقاط البداية، والمرحلة لتي يغادرها تصبح رخوة أمام المرحلة التي هو عليها. إنه لا يخدع نفسه [ كما خدعها مبارك أو الشاه مثلا- عزيز]، ولعله مثال للانسجام مع الذات المنفصلة عن المحيط حيث الاتصال هنا يضعف فرديته- ومن هتا يصدر عن الديكتاتور قرار بغلق الأبوابquot;.
هذا تحليل واقعي، وهو ينطبق على حاكم سورية اليوم ومواقفه المنفصلة عن هموم الشعب والمحيط والعالم، ولكن المنسجمة مع هوس السلطة ونزعة الطغيان، كما انطبق على حاكم العراق بالأمس، سواء في الإصرار على القمع أو بغزو الكويت برغم الإنذارات العربية والدولية.
ومن هنا، كل تعقيدات الوضع السوري وانغلاق الأبواب واحدا بعد الآخر، فيما النظام سائر، ومهما فعل إلى نهاية الشوط، أي نهايته- عاجلا أو آجلا.