في 9 نيسان- أبريل- 2003 أسقطت قوات الولايات المتحدة وحلفائها نظام البعث الصدامي، وقامت الجماهير العراقية بتدمير تماثيل الرئيس السابق في بغداد وخارجها.
في 9 نيسان انفتحت أمام العراقيين أبواب الحرية واسعة، ولكنهم أساؤوا استخدامها بدأ بعمليات النهب الشامل، وملاحقة غير المسلمين وفرض الحجاب على النساء وحتى على الصغيرات وغير المسلمات. وقد وصلنا اليوم والحالة العراقية بالغة التردي والخطورة، والبلد يسير نحو ديكتاتورية بوليسية جديدة، وإيران تهيمن على مقدراتنا، والطائفية تزداد استفحالا، ومشاكل البطالة والأرامل والأيتام والكرد الفيلية غير محلولة، والموت يواصل حصد الأرواح- منسوبا مرة لفلول صدام، وغالبا للقاعدة. وبينما تتجاوز الميزانية المائة مليار دولار فإن حوالي ثلث العراقيين هم تحت مستوى الفقر في حين أتخم المسؤولون والنواب بالامتيازات والرواتب السمينة. والفساد حول العراق إلى مثال بشع للفساد على النطاق الدولي.
لقد توقفنا مرارا في هذه المناسبة أمام الأسباب والعوامل التي أفشلت مشروع تحويل العراق لدولة ديمقراطية نموذجية، متعايشة مع جيرانها ورافضة للمغامرات العسكرية والطائفية والعنصرية ومحترمة لحقوق الإنسان. واجتهدنا في مقالات كثيرة، ومنها في مقالين في نفس اليوم من العام المنصرم، بان المسؤوليات متداخلة: ما بين الأخطاء الأميركية السياسية الفادحة، ودور ميراث النظام السابق من الخراب المتعدد الأشكال، وتسلل وتخريب القاعدة عبر سورية، والدور التدميري لإيران، مع تدخل دول إقليمية غيرها، وسلبية العرب وجفائهم لحد التحريض تجاه الوضع الجديد. وركزنا دوما على المسؤولية الاستثنائية للنخب السياسية والدينية العراقية، وخصوصا الأحزاب الدينية ومليشياتها المصنوعة في إيران والمرتبطة بفيلق القدس الإيراني. ولا تزال الطبقة السياسية العراقية، وخصوصا من بأيديهم عتلات السلطة وأهم مفاصلها، يقودون البلد نحو المزيد من الانهيار وحافة الكارثة.
في هذا المقال أود التوقف عند المواقف العربية سابقا واليوم.
نحن نتذكر صخب الإعلام العربي وهياج المثقفين ورجال الدين العرب ضد غالبية العراقيين الذين رحبوا بإسقاط صدام ونظامه على أيدي القوات الأجنبية. ونذكر فتاوى القرضاوي بقتل كل أميركي في العراق، وشعارات الجهاديين القتلة، الذين غزوا العراق تفجيرا للأبرياء وقطعا للرؤوس بعنوان غسل quot;عار الاحتلالquot;، متخذين من quot; الجزيرةquot; منبرهم الأول للتحريض والدعاية. والأزهر نفسه أصدر فتوى بتحريم التعامل مع مجلس الحكم. وأما مدير الجامعة العربية السابق، السيد عمرو موسى، قلم يستقبل وفدا من المجلس إلا بعد تردد وبكل برودة.
واليوم، فإن هؤلاء الذين أصدروا الفتاوى والبيانات، ونظموا المظاهرات ضد التدخل الأميركي في العراق، هم أنفسهم الذين يدعون للتدخل الأجنبي في سورية، وهم يعرفون أن المقصودين بالدعوة ليسوا لا الصين ولا روسيا بل الولايات المتحدة والأطلسي. وكان هؤلاء قد مهدوا لصدور قرار دولي لصالح حماية المدنيين في ليبيا، وقد صفقوا بحرارة عندما تجاوز الأطلسي حدود القرار ومضمونه بالمشاركة الفعلية في الحرب بجانب الثوار.
ما نشاهده هو أنه لا تمر ساعة إلا ويدعو المجلس الوطني السوري المعارض ودول عربية للتدخل العسكري الخارجي. وتصدر المقالات تباعا لتبرير التدخل، وتنتقد ما تعتبره سلبية المجتمع الدولي وتخليه عن واجباته الإنسانية، وهو ما تناسوا قوله في الحالة العراقية قبل الحرب عندما كانت المغامرات تحصد الأرواح، والمقابر الجماعية في كل مكان، والغازات تفتك وتبيد.. فما عدا مما بدا!!
نقول أولا إن التوسل بالتدخل الأجنبي للتخلص من نظام طغياني دموي عابث بالأرواح والكرامات، هو خيار معقد النتائج ومتشابكها، وهو غير مرغوب فيه فيما لو توفرت خيارات
أخرى للتخلص من الطغيان ووقف نزف الدماء واستنشاق نسائم الحرية وحقوق الإنسان. والأفضل لو توفرت فرص التغيير السلمي بلا سلاح لو أمكن. ولكن بعض المجتمعات تصل لمرحلة تعجز فيها قوى التغيير الحية عن التخلص من النظام الجاثم على الأنفاس بمفردها، وبرغم كل تضحياتها وبطولاتها، كما حدث مثلا مع شعوب البوسنة وكوسوفو، ومن قبل مع فرنسا نفسها أيام الغزو النازي لها. إن المتدخل الأجنبي، أميركيا أو أطلسيا، ليس ملاكا ولا فاعل خير، بل هو يفكر حتما في مصالحه الإستراتيجية التي قد تلتقي أحيانا مع مصالح الشعب المبتلى بالطغيان الدموي، مثلما قد تكون قد اتفقت من قبل مع ذلك النظام نفسه. وفي حالة التقاء المصالح- أجنبيا وشعبيا- فلم رفض العون الخارجي؟ لكن المفارقة في العقلية السياسية العربية هي أن الذين يلجئون للعون الغربي بالتدخل سرعان ما يبدؤون- عند احتكارهم للسلطة- بالتحريض ضد نفس من لجئوا إليه وبمهاجمته، كما حدث ويحدث في عراق اليوم، ولاسيما من مقتدى الصدر الذي أنقذ الأميركيون عائلته من مقاصل النظام السابق. وهذا ما يجب ان يكون درسا بليغا للغرب حين يفكر في التدخل، أي أن يكون وفق شروط ومواصفات دقيقة، ولا نقصد فقط أن يضمن مصالحه الخاصة بل أن يركز أولا على فرض الالتزامات الصارمة على المعارضة، وأن يحسن اختيار القوى المعارضة التي يقدم لها العون، وألا يثق بمجرد الوعود والتصريحات، التي قد تخفي نوايا وعقليات إعادة الطغيان، وربما بدرجات أكبر. وهذا ما لم تدركه الولايات المتحدة في العراق حين أعطت كامل الثقة لأحزاب الإسلام السياسي الشيعي، وكما تضع اليوم ثقتها بالإخوان في الدول العربية. ومع أنه لا يمكن التنبؤ مسبقا بدقة بالنتائج، فإنه يجب عدم نسيان دروس التجارب السابقة. كما أن من المفارقات العربية أن نقرأ مقالات تدعو للاعتذار للعراقيين على إدانة العرب لهم لتأييد التدخل في حينه، مع مواصلة إدانة نفس الأقلام وتجريمها لجورج دبليو بوش بسبب الحرب في العراق: فإما أن تكون تلك الحرب مبررة وعادلة، وبالتالي، فإن من قام بها لا يستحق هذه الحملة المتواصلة من التشنيع والتشهير، وإما أن يكون من يتحدثون عن الاعتذار للعراقيين ذوي موقف مزدوج ولاعتبارات الحالة السورية لا غير!
ولنا عودة..