كانت الانتخابات الفرنسية، الرئاسية ثم البرلمانية، موضع اهتمام دبلوماسي وإعلامي بالغ، دوليا وعربيا وإقليميا. وهذا طبيعي نظرا لمكانة ودور فرنسا. ومعلوم أن كل جهة وكل معلق أو محلل ينظر إلى ما حدث من منطلقات معينة، مع وجود قواسم مشتركة، في مقدمتها الإقرار بالاكتساح اليساري، والاشتراكي خاصة، للساحة السياسية، رئاسة، وحكومة، وبرلمانا، ومجلس شيوخ، ناهيكم عن الهيمنة في مجالس الأقاليم. ويتفق الجميع أيضا على ما يعنيه ذلك من تغيرات محتملة في السياستين الخارجية والداخلية الفرنسية، وهو ما كان معروفا منذ أن طرح هولاند برنامجه الانتخابي، لاسيما ما يخص كيفية معالجة الأزمة المالية والاقتصادية والعلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة اليورو، والوضع السوري والنووي الإيراني. وهناك أيضا ما يشبه الإجماع على مغزى فشل سيغولين رويال، المرشحة الاشتراكية السابقة للرئاسة، وتأثير ذلك على مستقبلها السياسي. كما فشل زعيمquot; الوسطquot; بايرو الذي دفع ثمن تأييده لهولاند في الانتخابات الرئاسية، وبذلك يكاد تجمعه ينحسر رغم حصوله على مقعدين. وقد فشلت أيضا زعيمة اليمين الشعبوي مارين لوبين، بفارق بسيط في الأصوات، رغم دخول حزبها البرلمان بثلاثة مقاعد، وهو ما يعتبر حدثا مهما. ومن الملاحظ أنها كانت قد حصدت 18 بالمائة من أصوات الناخبين في معركة الرئاسة، بينما لم ينل حزبها غير ثلاثة مقاعد برلمانية [ لستة ملايين ونصف المليون فرنسي اقترع لها]، وبالمقابل حصد الخضر 19 مقعدا في حين لم تحصل مرشحتهم للرئاسة على غير 2 بالمائة من الأصوات. وهذا هو قانون الانتخاب الفرنسي وتعقيداته.
من المهم أيضا التأكيد على النسبة العالية للامتناع عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة، بحيث زادت عن 44 بالمائة. وثمة أسباب قد يكون منها اعتبار الانتخابات الرئاسية هي الأساس؛ وقد يكون منها أيضا مرارة من النخبة السياسية عامة؛ وقد يضاف لذلك كله أن اليوم الأخير كان مشمسا، ولأول مرة، بعد أسابيع متتالية من مناخ كئيب ومؤذ للأعصاب والمزاج.
لقد نجحت الديمقراطية الفرنسية مرة أخرى، فلا مشاجرات ولا اعتراضات ساخنة، ولا معارك كلام، ناهيكم عن معارك ميدان!

*******
هناك، خلال الانتخابين وبعدهما، ثمة محطات وشؤون وجدت من الفائدة متابعة التعليقات الصحفية العربية عنها، وذلك بقدر ما تيسر لي الاطلاع عليه في الصحافة المقروءة والتلفزيونية.
لا شك في أن العرب عموما تلقوا خبر فشل سركوزي، وبهذه الدرجة أو تلك، بارتياح شديد، بل وبتشف. واعتقد أن ثمة خلفيات عديدة وراء هذا الموقف، كمواضيع النقاب والحجاب وضبط الهجرة؛ وربما هناك، مع الدم السوري المراق، لوم وتعنيف لسركوزي لدعوة الأسد لباريس وتكريمه. وثمة خلفيات أخرى. وقد يكون استقبال الصحافة العربية لنجاح فرانسوا هولاند قريب من استبشارهم بنجاح اوباما، بعد أن أبلس الإعلام العربي شخص سركوزي بقدر ما أبلسه الإعلام التلفزيوني الفرنسي الذي يهيمن عليه اليسار. ونعرف كم فرح الرأي العام العربي لفشل الجمهوريين، الذين تواصل بعض الأقلام العربية وصفهم بالليكوديين الجدد وأعوان إسرائيل. وتوهم العرب أن أوباما سيقدم لهم quot;تحرير فلسطينquot; على طبق، وسوف يلجم العنجهية الإيرانية المنفلتة. ولكن ها هو وقد فشل في مشروع مصالحة طالبان، وفشل في تغيير طبيعة وسياسة نظام الفقيه وثنيه عن السير المتواصل لتصنيع القنبلة، وهو يواصل اللهاث وراء صفقة مع إيران بينما هي ماضية في مشروعها الجهنمي، كما لا نعرف موقفه الحقيقي من الوضع السوري، في حين ما هو ثابت عنده هو استخدام كل الأساليب لضمان إعادة الرئاسة، ولو بتجاوز الكونغرس ومنح عشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين اللاتينيين وثائق إقامة لكسب أصوات جاليتهم المقيمة.
بالطبع، إن الرئيس الفرنسي ليس أوباما، ووعوده الانتخابية من طبيعة أخرى، ويجب أن نتمنى له النجاح في مهماته الصعبة وسط أزمة اليورو الصاعدة ومشكلة البطالة والديون الكثيفة.
إن بعض ما قرأت عربيا مقرف حقا وغير لائق نشره في صحف متزنة. إليكم مثلا ما كتبه صحفي هو كاتب عمود ثابت في الشرق الأوسط بمناسبة فشل سركوزي: يكتب أن سركوزي أرسل زوجته المطلقة للقذافي وتزوج من عارضة أزياء. من لا يعرف التفاصيل قد يتصور أن زوجته السابقة أرسلت لتلعب الشطرنج مع القذافي وتشرب نخبه[*]. والحال أنها كانت لا تزال زوجته، وذهبت مع وفد رسمي فرنسي للتباحث والتفاوض حول مأساة الممرضات البلغاريات اللواتي تعرضن للإذلال والسجن على يد القذافي. وقد نجح الوفد في مهمته، وهذا كان من بين مجموعة عوامل غربية لدعوة القذافي لباريس. وأما كارلا بروني، زوجة سركوزي الحالية، فقد تزوجت منه وليست عشيقته، وقد برهنت منذ زواجها على التزامها بكل ما هو مطلوب من السيدة الأولى، ولم تتدخل في السياسة، ولم تستغل منصب زوجها للترويج لأغانيها كما ادعت كاتبة في صحيفة quot;الحياةquot;، والتي وصفت زوجة سركوزي بالطائشة [ بدرية البشر- الحياة في 13 حزيران 2012 ]. ترى لماذا هذا التجريح المتواصل لزوجة سركوزي؟ ما هذا العدوان المعيب؟ ولماذا اعتبار زواجه وطلاقه خلطا بين الحياة الشخصية والحياة العامة، كما تكتب إرليت خوري في الحياة أيضا [ في 16 حزيران 2012] ، مقارنة في تقريرها بينها وبين ما كتبته شريكة حياة هولاند الحالية في دعم لمنافس السيدة سيغولين رويال،[ المرشحة الاشتراكية وشريكة هولاند السابقة]. إن الصحفية العربية تكتب أن هولاند أبدى وفريقه الحكومي quot; حرصا فائقا على التمايز عن عهد الرئيس السابق نيكولا سركوزي بهدف إقناع الفرنسيين أن البلاد شهدت عملية تغيير حقيقية من حيث الشكل والجوهر، وإن ما عرفته فرنسا في الفترة السابقة من خلط بين الحياة الشخصية للرئيس والحياة العامة قد ولى. لكنه من خلال ما أقدمت عليه صديقته [ أي فاليري ترييرفيلر] خالف تماما ذلك ليعيد إلى ذاكرة الفرنسيين الفصول المتلاحقة لخلاف سركوزي مع زوجته السابقة سيسيليا، ومن ثم ارتباطه وزواجه من كارلا بروني.quot;. انظروا لهذا الخلط العجيب: ما علاقة طلاق وزواج رئيس لأسباب شخصية وعائلية بهموم الدولة؟ ثم هل تدخلت كارلا يوما ما في مسألة سياسية خلافية؟- علما بأن لي رأيا آخر عن موضوع ما كتبته السيدة فاليري، قد أعود إليه. وأرى أنه من غير الصحيح تضخيم ما فعلته وإدانتها عليه، كما فعل رئيس الوزراء وكثرة من المعلقين في التلفزيون والصحف، وسيما في الصحف اليسارية.
لقد كان الإعلام الإيراني هو الأكثر فجاجة وسماجة في التطاول على زوجة سركوزي قبل حوالي العام في عملية انتقام من موقف سركوزي الحازم تجاه النووي الإيراني. ومن المؤسف أن تنزلق كاتبات وكتاب عرب لتجريحها اليوم لمجرد أنهم لا يحبون زوجها الذي ما له وما عليه، ويحسب له إنقاذ فرنسا في حينه من التعرض لما حدث لأسبانيا والبرتغال من أزمات مالية واقتصادية حادة جدا، ولا نقول كاليونان، وأوجد حلولا مرحلية ناجعة، [طبعا لا دائمة]، يكون التراجع عنها والعمل بخلافها ذا عواقب أليمة للغاية.

* هذا الكاتب نفسه كان قد نشر عمودا كاملا في السنة الماضية في شتم الأميرة الراحلة ديانا، ونعتها بأوصاف غير لائقة. وقال إنها كانت أكذوبة خدعت البريطانيين، ثم اكتشفوا الخدعة! وعاد مرة أخرى لذلك في تعليقه على يوبيل الملكة أليزابيت الثانية مؤخرا، مع التشنيع في نفس الوقت على السيدة سامبسون المطلقة الأميركية التي تنازل الملك أدوارد في حينه عن العرش ليتزوج منها. وأقول إن البريطانيين بأكثريتهم لا يزالون يحبون ديانا، ويذكرونها، وهي تركت الإمارة بعد أن خانها زوجها، وارتضت الحرية وخدمة الآخرين. وقد عادت الملكة لتكريمها رسميا بتشجيع من توني بلير حين كان رئيس الوزراء. كما أكرمت ذكرى زوجة أدوارد. ثم ماذا لو تنازل ملك عن عرشه لكي يتزوج ممن يحب ويعيش بحرية ما دامت التقاليد الملكية كانت تحظر الزواج من مطلقة؟ ولماذا نقحم تقاليدنا وقيمنا الاجتماعية والسياسية، ذات الجذور البدوية، في شؤون الآخرين في الغرب وفي الحياة السياسية عندهم!!
ألا نرى أن كون السيدة الأولى في فرنسا اليوم هي صديقة الرئيس لا زوجته يعتبر أمرا اعتياديا في فرنسا وليس عيبا؟ بل حتى الولايات المتحدة، ذات الثقافة الاجتماعية الأقل مرونة، قد استقبلت السيدة الفرنسية الأولى مع زوجها، خلال زيارتهما، بكل ما يليق من احترام، وما تقتضيه أصول البروتوكول الرسمي كما يجري عادة مع زوجات الرؤساء.

ملاحظة أخبيرة: بعد كتابة المقال تبين أن عدد مقاعد حزب مارين لوبين هو 2 لا ثلاثة..وهذا كما قلت بسبب قانون الانتخاب النسبي جزئيا.. ولو كان قائما على النسبية المتكاملة لتغيرت نسب مقاعدد الجميع ولحصلت القائمة الاشتراكية على أغلبية يسيطة لا أغلبية مطلقة