بين معالجات الواقع والذهاب بعيدا لأواسط القرن الماضي تدور بالعادة موضوعات الدراما العراقية. نجد مسلسلات عن سليمة مراد، ملك غازي، مناوي باشا... وأخرى تتحدث عن الارهاب، السلطة، الفساد، الامن، الحب...

بقيت الدراما، الا ما ندر، بعيدا عن جوهر التحولات العراقية خلال الخمسين عاما المنصرمة، تلك التحولات المنعكسة على حاضرنا. لهذا يبدو مسلسل quot;ضياع في حفر الباطنquot; من بين المسلسلات الدرامية النادرة التي عالجت بشكل واسع تلك الحقبة.

النص الروائي والدرامي لمسلسل quot;ضياع في حفر الباطنquot; امتزج برؤيتي الروائي عبد الكريم العبيدي بروايته التي تحمل الاسم ذاته، والروائي احمد سعداوي الذي نجح في اول تجربة درامية معروفة له بتحويل الرواية الى سيناريو درامي. ليجد النص طريقه نحو الصورة عبر المخرج مهدي طالب ايضا في اول عمل اخراجي معروف له. استطاع العمل ان يبرز وجوها جديدة او غير معروفة لتقدم اداء جيدا بالمقارنة مع زملاء اخرين لهم من نفس الجيل ظهروا في اعمال اخرى.

اننا في هذا العمل امام توثيق لجيل عاش الزمن المحيط بعام 1990، انتظر عشرين عاما او ما يزيد كي يقدم ما عاشه بعد تراكم من الشهادات وتطور في وعي للمجريات والنتائج اللاحقة. هو توثيق جيل الضياع لضياعه.

الضياع هو فكرة هذا المسلسل المركزية. العنوان الذي حمل المفردة ذاتها كان معبرا، وصحراء حفر الباطن هي رمز حرب بدأ معها عهد العراق الاخير للخراب. اكبر خراب يمر به شعب هو ان يتوه ويضل طريقه، التيه فكرة قديمة، ولعنة اسطورية. ربما تكون بداية الضياع العراقي اقدم من عامي تسعين وواحد وتسعين، غير ان الاكيد ان صافرة البداية الشاملة لتلك اللعنة كانت في ذلك التاريخ.

كما هي حياة الناس لا بطل واحد فيها، كذلك تقدم لنا دراما quot;ضياع في حفر الباطنquot; مشاهدها، قصص مترابطة رغم تباعدها. بطل هذا العمل مضمر، مخفي، غير معلن، هو رب تلك اللحظة، رأس النظام الذي صنع كل هذه الاهوال. المجتمع عندها تقسم الى اشلاء واشلاء في قصة مأسوية. ولم ينفع مع مصدر الشرور هذا انتفاضة الشعب. صورته التي رميت بمئات الاطلاقات النارية عادت مجددا لتتسيد المشهد، كي تكمل مسيرة الضياع.

جنود تائهون وسط الصحراء، بعد هزيمة في حرب اخذوا لها عنوة، يستمر التيه، يدورون حول انفسهم، طائرات العدو تحلق فوقهم، تطالبهم بان يسلموا انفسهم، وفي النهاية يجد التائهون ان العدو ارحم من الصحراء، وافضل من التيه، ما عاد العدو عدوا. مشهد ينعكس على كل المشاهد الاخرى، يتكرر مع كل فرد من الاكثرية الموجودة داخل المدينة، البيوت تائهة، الناس، الحب.. كل شيء هو تعبير عن الضياع.

وجه ام رعد يعبر عن الضياع ايضا بعد ان فقدت ابنها، تجلس وحيدة امام بيتها الذي لم تجلس امامه فيما سبق، هي شاردة بين امل العودة وخوف من فقدانها الى ما لانهاية اهم ما تملك.

مشاهد الضياع تتالى؛ في الحب ايضا، اكرم وهيفاء يرتبطان وينتظران لحظة انتهاء الحرب للزواج، وسرعان ما يقفا على رصيف الانتظار ايضا. اكرم يضيع في حفر الباطن، وهيفاء تتوه في انتظاراتها. الفقر والعازة تصل ذروتها في اسرة سيد عبد الله، ابوهم معتقل، واخوهم هارب محكوم بالموت، أم وابنتها يبيعان ما يملك منزلهما، في ضياع الفقر الذي لم يبق دارا في العراق الا لظاها. بديعة الراقصة وزميلتها تغادران هما كالاخرين، الضياع مسهما ايضا.. توفيق بعد ان كان حزبيا، يفلت من الموت، غير انه يتوه في رحلة بحث على غير هدى. البعثيون في ضياع ايضا، احدهم يقتل الاخر، يحاور كل منهم نفسه عن مصيره. يتيه حسوني وسط الصحراء، ابوه يختفي بعد ان اشهر عداءه للنظام ليترك الاسرة التي اضطرت ان تهاجر في رحلة تيه اخرى لمئات الالوف نحو دول الجوار خلال اشهر قليلة فقط.

يحاور الخياط بدلات رجالية لم يأت اصحابها اليها، ربما قتلوا، اعتقلوا، هربوا.. باختصار ضاعوا. في الحلقات الاولى، يخبر احد السجناء رفاقه ان السجن سيمتلأ ولن يبقى مكانا للجلوس، في الحلقات الاخيرة يتكرر الكلام ذاته، رغم ان الوجوه داخل السجن تغيرت والزمن تغير.

المسلسل جمع في فكرة الضياع بين شخصياته واحداثه ومشاهديه. يجد المشاهد نفسه داخل العمل، في شخوصه او احداثه. الكل حضر في الضياع، ومن لم يحضر فإنه، وعى ذلك او لم يع، مصاب بامتداداته وعمقه المستمر حتى بعد ذهاب من صنعه. وللضياع شهوده الذين يتلمسون احداثه، ماضيه وسلسلة امتداداته.

يلعب رعد المثقف المعارض للسلطة والمصاب بالشلل بفعل سجونها دور الشاهد، في كل حلقة تقريبا يظهر لنا امام شباك بيته، يوثق، يسجل انطباعا، هو انطباع مثقف يدرك ما يدور ويعطي تصورا عن حجم الالم. يختفي رعد في الانتفاضة، ويبقى كرسيه المتحرك. يرث قيس اوراق رعد، يقوم بنفس المهمة. دور رعد وقيس في هذا العمل هو تسجيل ما لا يمكن تصويره، انه شهادة بعد عقدين من السنين.

من خلال المنولوج، يسعى المسلسل لتقديم مقاربة ما بين اللحظة الراهنة والسابقة.. يحاول كاتب النص ان يعطي انطباعا معاصرا عن الحدث ويغلفه بصيغة الحدث نفسه. يتخذ الكاتب لنفسه زاوية داخل العمل فيتحول الى بطل من ابطاله، وهو ليس شخصا بقدر ما هو نمط، يموت الراوي فيولد اخر... في كل بلد هناك من يعيش في الحدث ويظفي عليه قراءة وفلسفة.

كانت ذروة رفض الضياع في انتفاضة اذار، وعندما تغلبت السلطة، انهار الامل، وازداد التيه. مهد المسلسل في حلقاته الاولى للحظة الذروة من خلال مشاهد المقاتلين المتمركزين في الاهوار، وفيما بعد، قدمهم على انهم صانعو الانتفاضة. لكن هؤلاء لم يكونوا شرارة الرفض. الحدث الذي جرى الساعة السابعة من صباح الثاني من اذار وامتد للعراق كان من داخل المدينة نفسها، الشرارة الاولى لم تكن رفضا منظما، ومخططا، بل كان ردا صريحا من شبان وفارين من الجيش داخل المدينة للانتفاض على الضياع الذي يراد لهم دخوله.

وبمعزل عن كل ما يقال من ملاحظات بعضها يبقى ضمن مساحة الاختلاف في وجهات النظر حول المضامين، وبعضها فني، وبعضها قد يكون اسقاطا نفسيا، بمعزل عن كل ذلك يبقى quot;ضياع في حفر الباطنquot; اهم عمل عراقي لهذا العام. ويمكن ان يكون بداية فعلية لمرحلة درامية افضل.