بات الحنين رأس مال الكثير من العراقيين، الحنين للماضي، لزعماء تُرسم صورهم من خلال النظر لزاوية واحدة فقط.
اخذ اول زعماء الجمهورية العراقية عبد الكريم قاسم قسطا كبيرا من هذا الحنين. الا ان متغيرات طرأت، ظروف محلية ودولية تغيرت، قداسة quot;الحنينquot; لقاسم اهتزت، وعي مختلف بدأ بالظهور، وعي ادرك ان حكم العسكر البديل عن المملكة فتح على العراق ابواب جهنم، وهيمنة الاحزاب الشمولية على الحياة السياسية والاجتماعية شوهت الانسان في هذا المجتمع المليء بالتعقيدات. لقد كانت ثورة 14 تموز بداية لفترات من الدم والبطش غير مسبوقة.
ظهر حنين جديد، وبتعبير اصح تغيرت وجهة الحنين القديم من زعيم الجمهورية الى نوري باشا السعيد رئيس الوزراء الاهم في العصر الملكي. ما عاد وصف quot;العميلquot; لهذا الرجل رائجا، حلت مكانه نظرة اخرى تراه المخضرم العارف في شؤون العلاقات وتوازناته بعيدا عن الشعارات التي ورطنا بها اليسار وتلاقفها اليمين. ان حجم البطش quot;الوطنيquot; اوجد قطيعة مع الكثير من مقولات quot;الوطنيينquot;. استعادت ذكرى نوري السعيد ثقة الكثيرين، جزء من النخبة تنظر له اليوم كسياسي مخضرم لم يُفهم جيدا، والناس العاديون وجدوا انه لم يفعل ما فعله quot;قادة الوطنيةquot; من هوايل.
يعرف المنصف باقل المقارنات بين العهدين الملكي والجمهوري ان الثاني قد اخذ العراق بعيدا نحو الهاوية، ومن يريد الشواهد يجدها بسهولة. غير ان المقارنة لوحدها لا تكفي تبريرا، أكثر انظمة الدنيا تصبح ملاكا لو قورنت بمن حكم العراق نصف قرن.
يحال تخلي الشعب العراقي وتصفيقه لسقوط المملكة الى الجهل فقط.. تستبعد العوامل الاخرى المنتجة للقطيعة بين المجتمعات وانظمتها، مثل فقدان الثقة والاهمال، وهي عوامل تهوي بالدول في منحدرات التفكك، لأنها تفتقد للقدرة على امتلاك قواعد شعبية قادرة على تدعيم شرعيتها.
سيقال ان الشعب كان معبأ ضد السلطة بفعل الاحزاب الشمولية، وتحديدا الحزب الشيوعي والى حد ما القوميين وعلى رأسهم البعث. هذا صحيح، غير ان التعبئة لم تكن ممكنة لولا وجود ارضية مناسبة. المجتمع كان يشعر بالظلم، الغالبية العظمى منه بقيت ترزح تحت طائلة الفقر والجهل وسوء التعامل والطبقية... نوري سعيد حقق للعراق مكانة اقليمية مرموقة، لكن السياسات الداخلية وسعت الهوة بين الطبقات الاجتماعية، كانت السلطة تتمركز بيد مجموعة صغيرة من الوجهاء وبعض الاقطاعيين ورجال الدين، وبقي السواد الاعظم من المجتمع خارج دائرة الاهتمام. سمحت هذه السياسات الداخلية بارتماء الاكثرية في احضان الشيوعية والقومية.
ما يحصل في العراق يمكن ان نجد له امثلة في بلدان اخرى فشلت في بناء دول عادلة. الحنين العراقي يقاربه نظير في مصر. يؤشر علاء الاسواني في رواية عمارة يعقوبيان الى ان الملكية كانت حامية المدينة ورخائها، الموضة وتجلياتها، المجتمع المخملي والباشوات، وما ان انهارت حتى انهارت المدينة التي رمز اليها بعمارة بناها رجل من الخواجات. بالفعل ان الملكية رعت المدينة، الا انها لم تكن سوى مدينة تمثل الاقلية الصغيرة وسط طوفان اجتماعي مهمل احاطها، ولم يعرف احد ان شبابه راحوا ضحية احزاب وافكار وعسكرتارية مدمرة، وما ان سنحت الفرصة حتى اندفعوا للمدن بعقلية الجيوش الفاتحة.
ها نحن نسترجع في احلامنا تلك المدينة المحدودة دون ان ننظر الى محيطها البشري الاكبر الموغل بالعذاب انذاك، ونستعيد ممجدين لزعامات ماضية نتحاشى النظر الى جرائرها، كي لا نكسر تلك الصورة المرسومة بالوان الحنين الواهمة.
يتساءل صديق الا يستحق العراق زعيما افضل من كل الحكام الذين تتالوا عليه بعد الملك فيصل الاول؟.
لم اشأ ان اجادله، فالقصة ليست ان العراق يستحق او لا يستحق، فمؤكد ان كل شعب يستحق ان يحكمه اناس جيدون. القصة الاساسية هي ان العراق لم ينتقل الى مرحلة الامة، ما زال جماعات بشرية. محاولة الملك فيصل شيدت دولة منقوصة، هي بناء فوقي واجهت الانهيار بمجرد ما سنحت الفرصة.
نحن الى الان بين كل حالات الحنين لم نستكشف مشكلتنا، لم نستطع بعد ان ننقد تاريخنا، بل نصطف فيه مع فترة ضد اخرى، نعادي بقوة بعضها ونهلل لبعضها الاخر. لم نحاول مراجعة شيء من ماضينا، حتى ذلك القريب المتمثل بالحصار والحروب والدكتاتورية. بل اننا مع التغيير الحاصل سنة 2003 نقف معه او ضده، دون ادنى محاولة لقراءته من غير تحزب.

لم يكن ديغول قادرا على صناعة شيء لفرنسا لو لم يستطع الفرنسيون ان ينقدوا ذاتهم وتاريخهم وهزائمهم، وينقدوا حاضرهم ايضا، الحنين هو الغباء بعينه الذي يكرس اخطاءنا ويعيد تاريخنا في دائرة من الفشل مستمرة.