الديمقراطية في الهند نموذج فريد في النجاح، وفي باكستان مثال سيء. هي قصة تجربة شبه القارة الكثيفة السكان منذ 1947. لمئات السنوات عاش الشعبان سويا، وانتميا للخصائص الجغرافية نفسها وبينهما تاريخ مشترك، باكستان والهند كانتا قبل عقود بلدا واحدا.

الهند بطوائفها وقومياتها المتعددة لدرجة القول انها بلغت العشرات، اختطت طريقها بثقة لتحظى بنظام سياسي ديمقراطي ليبرالي مستقر، بينما بقي النظام في الباكستان محملا بمفاجئات الانقلابات والتصفيات المستمرة، انتخاباته عقيمة، وديمقراطيته شكلية، وبقي البلد بؤرة لكل حركات التطرف الديني والتمييز الطائفي.

فما هو الفرق بين البلدين، هل لأن باكستان مسلمة مثلا؟

الم يثبت المسلمون حتى الان عجزهم عن بناء نظام ديمقراطي، ومدنية تتيح التعددية والحريات وتحترم الافراد والاقليات؟.

المجتمعات المؤدلجة دينيا تؤمن بالوصاية، هي مجتمعات ابوية، تصنف الناس الى اثنين، مؤمن يحق له العيش وكافر لابد ان يذل او يطرد او يقتل. يتقاعل الاقصاء ومنع التعددية ويتطوران عندما تندمج السياسة بالايدلوجيا الدينية. ربما لا تكون المشكلة في الاديان نفسها، فالمشكلة الاكبر هي في العلاقة مع الدين التي تأخذ شكلا لم يأمر به الدين نفسه.

وفي السياق الطبيعي يفترض ان ينعكس تطور الوعي الانساني خلال القرون الاخيرة بشكل ايجابي على هذه العلاقة ليشذبها بما ينسجم مع شرط التعايش الذي يعد ركنا من اركان الحضارة الحديثة. غير ان التلاعب المستمر بالنعرات الدينية، وتغذيتها من قبل السياسة والخارج يجعلان المجتمع دائما مستفزا لها، محكوما بها، متورطا بما تمليه من تدهور وعداء. ان الصراع الاسلامي الداخلي، والتطرف الديني، وثقافة التزمت والممانعة تجد مؤسسات ودولا داعمة تغذيها. باكستان وجدت من يغذي نزاعاتها وممانعتها الداخلية امام التعايش فضلا عن الديمقراطية.

جدير بالذكر ان الكثير من التغييرات التي يعيشها العالم الاسلامي تبدأ بعنوان مدني، وسرعان ما يصبح ذلك العنوان مجرد واجهة يخفي جيشا من الصيغ والمفاهيم الدينية التي تتعارض مع الدولة المدنية، وهي بدورها تشكل مع بعضها فكرا دينيا متطرفا يتعايش مؤقتا مع شعار الديمقراطية والحرية.

اسهمت القوى الوطنية والليبرالية واليسارية الايرانية في تفجير وقيادة الثورة قبل عقود، وبعد سنة او اثنين وجدت نفسها خارج المعادلة بالكامل. تجربة الجزائر قبل عشرين سنة انتهت الى اسلام سياسي بعد اول انتخابات حرة. وفي الكويت ولد مجلس النواب الوحيد خليجيا، وفي ذهن مؤسسيه بناء تعددية مدنية، لكنه انتهى الى ان يصبح موطنا للاصولية والسلفية. تغير النظام في العراق فوجد نفسه في صراع ديني طائفي.... وهكذا حال الحراك الاحتجاجي العربي المعارض للانظمة في الوقت الحاضر، حراك تدفعه شرارة الرغبة بالتحرر والبحث عن الديمقراطية، لكنه سرعان ما يرتد فيستخدم التحرر والديمقراطية بطريقة تتعارض مع الحرية والف باء الديمقراطية.

من الطبيعي لمجتمعاتنا الاسلامية التي عاشت تحت نير انظمة دكتاتورية او فاسدة ان تكون القوى التقليدية فيها هي الطرف المعارض، الطرف المستفيد من أي انهيار لتلك الانظمة. الطائفية ايضا نتيجة متوقعة لسلوك اغلب الانظمة العربية او كلها، التهميش والاستهتار وعدم صناعة واقع مدني سياسي يسهم في التعايش بدون قمع، اسباب ابقت على الطائفية ونمتها في الخفاء.

الانتفاضات العربية اليوم تواجه دولا محيطة ومؤسسات عابرة للاوطان توظفها باتجاه اخر غير ذلك المبني على الديمقراطية، هناك من حول الصراع بين المجتمعات والانظمة من صراع من اجل الديمقراطية والتحرر الى صالح الطائفة والغلبة. ان هذه الدول ليس من مصلحتها بناء ديمقراطيات ليبرالية في الشرق الاوسط والعالم العربي، لأنها ستأكل من جرفها وتحاصرها وتدفع شعوبها الى المطالبة بالتغيير الديمقراطي.

ايران والسعودية مثلا لن يخدمهما ان يكون الصراع داخل البلدان المجاورة على الديمقراطية ومن اجلها، لأن هذا اولا يؤثر على وضعها الداخلي.

كما ان الطائفية خيار امثل يتيح لـquot;زعامات العالم الاسلاميquot; البقاء في الزعامة، لهذا هي تدفع باتجاه الصراع من اجل الطائفة. في العراق عززت ايران ودول عربية الصراع المذهبي كي يستمر تقاسمها للنفوذ، كما هو حال لبنان. وهذا ما سيحصل في سوريا واليمن والبحرين، وحتى في مصر حيث يخف الصراع الطائفي هناك من يؤججه بطريقة واخرى.

الحرب من اجل الطائفة تسمح لرعاتها في المنطقة ان يكون لهم اليد الطولى. لكن المؤشرات تفيد الى ان الدفع باتجاه الطائفية لن يفيد سوى بكسب الوقت، الطوفان لن يوفر احدا.