تقف الذاكرة العراقية هذه الايام بين حدثين. عقدان من السنين بين تظاهرة الخامس والعشرين من شباط 2011 المتربطة بنيران البوعزيزي، وانتفاضة اذار quot;شعبانquot; 1991 العائدة الى زمن المواجهة مع الدكتاتور. محير عن ايهما يكتب المرء، عن quot;ربيعquot; افتراضي لم يحصل في العراق، ام حدث عراقي كان يمكن ان يغير وجه البلاد بيد شعبها.
فجر الاول من اذار عام 1991 انطلق شبان من حي quot;الجمهوريةquot; وسط البصرة يرفعون شعار quot;يسقط صدامquot;. انهارت السلطة بسرعة، امتدت الشرارة لتعم جنوب العراق والفرات الاوسط وكردستان وكركوك، حتى الساعة الواحدة من ظهر اليوم نفسه خرجت 14 محافظة بالكامل من سيطرة النظام، وبقيت بغداد تنازع الثقل الامني والعسكري.
لم يكن متوقعا ان يحصل ذلك، فنظام استارث الاساليب الستالينية وطورها يصعب ان يتعرض لهذه النكسة الكبيرة. لكن العراقيين انذاك كانوا اكثر قدرة وتأهيلا نفسيا لتقبل المواجهة مع النظام الدكتاتوري. سياسة الاذلال التي مارستها جمهورية الخوف لم تسلب المجتمع كل ادوات المواجهة والرفض، بقي لدى الناس بعض الاشياء.
في غضون شهر دموي قمعت الانتفاضة، بيد الجيش المهزوم في حرب الخليج، والحرس الجمهوري المتمرس في بغداد. سمحت الاسرة الدولية باستخدام سلاح الجو لقمع المنتفضين، تدخلت دول اقليمية لدى الولايات المتحدة لمساعدة النظام كي تغض النظر عن الانتهاكات والجرائم، قتل في ذلك الشهر 150 الف انسان، هرب ما يزيد عن المليون والنصف الى الحدود الشرقية والجنوبية.
منذ تلك اللحظة تم الاجهاز على ما تبقى من ادوات الشعب. سياسة الاذلال التي مارسها النظام وساعدت عليها الدول الاقليمية والكبرى، انهكت العراقيين. السياسة البعثية تحالفت مع الحصار الاقتصادي المفروض لمدة 13 سنة ضد بلد كان يمكن ان يكون من افضل بلدان المنطقة.
الحصار وحده قصة، قصة اذلال شعب، افقاره، تعليمه على الرشوة، كسر روح الانسان بداخله، توجيه كل اشكال النقمة عليه، ان الشعب العراقي تعرض للعقاب، عقاب البعث وعقاب العالم والمنطقة.
قد تنسى الشعوب بعض السياسات والحروب، وتغفل عن شيء من الماضي. لكن من الصعب لشعب عاش اسوأ حصار عرفه العالم الحديث، وتعرضت كل بناه وشرائحه الى اشد واقسى انواع القمع، صعب ان ينسى ذلك. على العكس ان هذه الذاكرة القريبة انسته مآسي اعدامات quot;الجملةquot; التي حصلت في الثمانيات، والام الحرب العراقية الايرانية. ذاكرة العراقيين ما تزال معلقة بالمقابر الجماعية التسعينية والحصار القاتل وانضم الارهاب الجديد لها.
هذه الذاكرة سبب مهم في فشل تظاهرات الخامس والعشرين من شباط 2011. كثير منا اثناء التظاهر كان في داخله خوف عميق، لا ارادي، ذاكرة قاسية، من ان يستثمر اولئك القتلة السابقون الاحتجاجات للعودة مجددا. وهناك خوف ايضا من ان تستغل الاوضاع دول اقليمية ساعدت صدام على قمع شعبه عام 91، رغم انها كانت مشاركة في الحصار المفروض على العراق.
هذه الذاكرة حاضرة، مستمرة، تدفع العراقيين للنظر نحو محيطهم العربي الرسمي، واحيانا الشعبي، بعين الريبة والخوف. وهو شعور عمقته الاحداث اللاحقة. فمئات المقاتلون العرب الذين ادخلوا تنظيم القاعدة عبر حدود عربية قتلوا الناس بالجملة في اكثر الجرائم دموية وبشاعة. واضاف التعامل مع العراق بمعايير مزدوجة في الجرح عمقا. وهذا يفسر المواقف العراقية غير المتفاعلة مع اقامة القمة العربية في بغداد.
لكن لا الدول الاقليمية ولا البعث صعنوا التظاهرات، المحتجون شباب لا علاقة لهم بأي اجندة، واغلبهم يؤمن بعراق جديد. رغم محاولات وسائل الاعلام الموالية للنظام السابق اخضاع تلك التظاهرات لاجندة لا تشبه مطالب المتظاهرين. وهذا ما ارتاحت له السلطة التي استخدمت التخويف من بقايا النظام ورقة للترويج المضاد.
العراق ما زال في مرحلته الانتقالية، بين ماض يحفر في الحاضر، وجماعات حاكمة ومعارضة غير موثوق بقدرتها على صناعة التغيير اللازم. وستبقى السلطة تستفيد من هذا العدو، الذي يبدو احيانا كشبح. وحتى ذلك الحين يصعب الحديث عن تظاهرات جادة.
الفرصة الاكثر جدية للتغيير الايجابي في صناديق الاقتراع، غير انها فرصة مرتبطة بوعي اجتماعي متقدم، وبظهور طبقة جديدة اكثر كفاءة... وهو مالم يحصل حتى الان.