نجاح السلطة يقاس بقدرتها على جعل الوطن مكانا صالحا للعيش ومستوفيا حقوق ساكنيه ومصالحهم.
فالوطن ليس أرضا مجردة. هو ارض تتوفر على حقوق الافراد والمكونات ومصالحهم. لا تكفي العواطف والانتماء التاريخي لبلورة روح الانتماء الوطني، هناك مصالح للافراد والجماعات يجب ان يتوفر حد معقول منها منها كي يشعر المرء بقدرته على الاستمرار في العيش بمكان ما، حتى وان كان هذا المكان هو وطنه.
والنظام السياسي هو المسؤول عن توفير تلك المصالح والحقوق، وهو الجهة المعنية بتحقيق المساواة في الفرص بين الأفراد. بمعنى أن الدولة هي المسؤولة عن توفير شروط الانتماء الكامل لأرض ما.
بعض الانظمة السياسية، الشمولية والدكتاتورية تحديدا، تلجأ الى الشعارات وتحفيز العواطف وشخذ الهمم بطريقة جوفاء كبديل عن صيغة عيش مشترك مرضية تضمن ما يجب ضمانه لتمسك المرء بارضه ووحدة وطنه. وسرعان ما تنهار هذه العواطف او تخترق عند اول تحد، لعدم وجود العناصر التي تعزز من الشعور بالانتماء.
لذلك لم تكن العواطف المجردة وحدها قادرة على منع رغبة العراقيين يوما بالتخلص من الدكتاتور ولو كان ذلك عبر عدو، فلا عدو اخطر من الدكتاتور. انها لحظة تبدو احيانا لا منطقية يصلها أي شعب اذا ما اختنق. لحظة مثل هذه يبحث فيها كل فرد عن حياة افضل، عن وطن يبنيه في احلامه عله يجد فيه مصالحه وسروره..
بحث العراقيون خلال العقدين الاخيرين من النظام السابق عن خيارات مشروعة وغير مشروعة للخروج من عنق الفقر والظلم والقهر والموت. كثير منهم استبدلوا الوطن بأوطان أخرى، اغلبهم ثار على نظامه منذ مطلع التسعينات. بعضهم بالمقابل لجأ لموالاة السلطة حتى ولو عبر مشاركتها في ظلم الآخرين لتحقيق المصالح الخاصة داخل الوطن.

فهل تغير حال العراقيين الان؟
خلال ثمانية اعوام عجزت العملية السياسية عن اعادة تأهيل العلاقة بين الفرد والوطن. وتحول بعض المكونات العراقية نحو الدعوة الى الفدرالية بعد رفضها سابقا، يكشف عن عجز السلطة.
يرى البعض ان دولا اقليمية تدفع بعض القوى السياسية لهذا الفعل. ربما، فالعراق وبقية العالم العربي اصبح مسرحا لنفوذ مصدره اموال برائحة الايدلوجيا او الطائفية او النفط او الغاز. لكن يصعب على النفوذ الخارجي تحقيق ارادة شعبية ما اذا لم تتوفر ارضية مساعدة.
هذه الارضية متوفرة بشكل كبير في الوقت الحاضر. الحكومة تدعم مركزيتها على حساب المحافظات الاخرى. والشعور بالتهميش اصبح حاضرا بقوة لدى بعض المكونات، ولدى بعض الاقليات الثقافية والسياسية في العراق ايضا. بل هو حاضر حتى في المحافظات الجنوبية التي لا تجد لنفسها حضورا عادلا في احزاب حاكمة تمثل مناطق بعينها.
السبب الذي يدعو بعض المحافظات الى اللجوء لطرح الاقليم خيارا هو نفسه يدعو الكثيرين الى الهجرة، بحثا عن وطن اخر. وهذا الدافع لوحده كاف لأن يرفض الانسان وطنه، فالارض التي لا يشعر المرء فيها بسعادة وامان ورفاه لا يمكن ان يتمسك بها طويلا.
وعندما يعجز النظام السياسي عن توفير وطن صالح للعيش، فإن المغبونين والمهمشين يبحثون عن وضع افضل. الهجرة خيار، وهناك الفدرالية ايضا، تبدو في تصور الكثيرين بديلا اكثر نجاعة عن التبعية لحكومة عاجزة في الخدمات والاقتصاد.
خلال السنوات الماضية اثبتت السلطة المركزية في العراق فشلها الكبير في تنمية المحافظات وبنائها. الاقتصاد والخدمات من السيء الى الاسوأ. الحكم لا يمتلك ما يقدمه للناس سوى بعض المعالجات المؤقتة والمحدودة. الصراعات السياسية تلقي بظلالها على كل شيء. وعيون الجميع تنظر بغبطة لتجربة كردستان الناجحة والنامية.
فهل يدرك رئيس الوزراء نوري المالكي بأن حكومته لم تقدم الا القليل النزر للعراقيين على اختلاف مشاربهم وطوائفهم؟. وان تجربة الاقليم الكردي اصبحت نموذجا يفكر فيه العامل والبطال؟
سيقال انها حكومة الجميع، وان الفشل بسبب مكونات الحكومة وتركيبتها وليس بسبب شخص واحد. ربما، لكن حكومة الجميع ضيعت حقوق الجميع، فما الفائدة من استمرار امساكها بخيوط اللعبة كاملة؟
ولنسلم جدلا بصحة ما يقوله رئيس الوزراء من ان الوقت غير مناسب لاقامة الاقاليم، والفدرالية تحتاج الى وقت اكثر استقرارا، فما هو البديل؟. مؤكد ان البديل ليس الدكتاتورية، ولا حكومة الشخص الواحد او الحزب الواحد. من يرفض الفدرالية عليه ان يقدم بديلا غير الانفراد بالسلطة.
ومن ثم اذا كانت الفدرالية بهذا السوء، فلِمَ اصرت القوى الحاكمة اليوم على جعلها اساسا في الدستور وعلى اقرار قانون خاص لها؟. تغيير القناعات لا يكفي مبررا. إنها ليست ذات قيمة امام الدستور، فهو بعلاته يبقى مرجعية لمن كتبه، وحجة عليهم على اقل تقدير.
الامر هنا ليس دفاعا عن الفدرالية، بقدر ما هو وصف لحالة لا يمكن السكوت عنها. بلد يحتوي إقليما مرفها اكثر من أي مكان، وحكم مركزي عقيم بسلطتيه التنفيذية والتشريعية، وشعب يدفع الثمن.
فأسباب اللجوء للأقاليم، هي نفسها التي تدعو الكثيرين للهجرة. سببها ان الوطن ما عاد يحمي مصالح الجميع ويضمنها، بل لا يتضمن سوى حماية لطبقة محدودة من الناس. الوضع يتجه حثيثا نحو تكريس الأمن والمال والرفاه بيد مجموعة محدودة من الناس ومن اجلهم، والغالبية هم هامش.
ويخطئ رئيس الوزراء اذا ظن ان هذا الهامش الذي انتخبه اراده لبرنامجه السياسي، ابدا، لا هو ولا الغالبية من القيادات السياسية فرضتهم برامجهم. معايير النجاح في الانتخابات العراقية تفرضها اولويات اخرى.
واذا كانت محافظة صلاح الدين لجأت الى مشروع الاقليم لاسباب بعضها طائفي، فهناك اكثر من سبب اخر وجيه ومناسب يدعو لاقامة الأقاليم. انها الاسباب نفسها الموجودة في محافظات الجنوب. فمالذي قدمته الحكومة للبصرة مدينة النفط ومنفذ العراق البحري الوحيد، رغم انها دعمت ائتلاف رئيس الوزراء في الانتخابات النيابية والمحلية. هل قدمت الحكومة ما يبرر للبصرة ان تبقى موالية لفكرة الدولة المركز؟
يتوهم اي سياسي عراقي بظنه ان فكرة الوطن بمعناها العاطفي تكفي لاستمرار جوع الناس وشبع السلطة. فكما ان الناس معنيون بحب الوطن، فإنهم ايضا معنيون جدا بمصالحهم وحقوقهم داخل هذا الوطن. وخداع الشعارات quot;الوطنيةquot; ما عاد نافعا.