تصريحات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الاخيرة حول الثورات العربية تثير اكثر من علامة استفهام، خصوصا وانها تصدر عن اعلى سلطة تنفيذية في بلد يفترض ان يكون ابتعد عن خطاب النظام الرسمي العربي السابق ويتمسك بانه quot;عراق جديدquot;.
ففي مناسبتين منفصلتين تحدث المالكي عن الحدث العربي، متضامنا مع مطالبه من جانب ومحذرا من ان تكون سببا لتقسيم البلد الواحد فيما اسماه بـ quot;سايكس بيكو جديدquot; وهيمنة اسرائيل من جانب اخر.
ويبدو ان رئيس الوزراء يبحث عن دور خارجي من خلال القناة التقليدية نفسها quot;اسرائيلquot; خصوصا وان كلامه التحذيري جاء في سياق حديثه عن ضرورة عودة العراق الى دوره الاقليمي.
الطبقة السياسية الموجودة في مراكز القرار سواء المنضوية في الحكومة او التي تجد نفسها جزء من العملية السياسية افتقرت دائما الى رؤية واضحة ومتميزة حول القضية الفلسطينية، ومواقفها روتينية تتلخص في الغالب بالتصويت الى جانب quot;الاشقاءquot; الاخرين حول بعض ما يحصل بين العرب واسرائيل، طبعا باستثناء موقف التيار الصدري الذي يحاول ان يأخذ اسلوب حزب الله في استعراض تعاطيه مع موضوع فلسطين واسرائيل.

فهل استحضار quot;اسرائيل العدوquot; حل مناسب لعودة العراق الى بعده اقليميا كبلد ستراتيجي في الشرق الاوسط والعالم العربي؟
ان شكل العلاقة باسرائيل، سلبا او ايجابا، يعد بلا شك نقطة اساسية في تحديد وضع أي بلد في المنطقة، والقضية الفلسطينية تبقى حاضرة في كل الاجندات العربية، ولكن خطاب المالكي يبدو وكأنه انتكاسة وعودة الى نفس الاساليب والخطاب التقليدي الذي اثبت فشله وما عاد يشكل حضورا مهما في ذهنية الفرد العربي، فضلا عن المواطن العراقي المعني باولوية عودة بلده الى وضعه الطبيعي قبل الدخول في أي اولوية خارجية.
ولهذا فإن استخدام موضوع اسرائيل بالطريقة التي استعرضها رئيس الوزراء العراقي ستضر بوضع العراق اكثر مما تفيده، خصوصا وأن هذا الحديث جاء في اطار تقييم الرياح التي تعصف بالانظمة، وكأنه يعرض الموضوع بنفس الطريقة التي تعرضها الانظمة العربية عندما تدافع عن نفسها امام تحركات الشارع.
قد يُقبل رأي المالكي لو صدر من كاتب او مفكر او زعيم حزب او رجل دين خصوصا في ظل الكثير من التعقيدات التي تمر بها المنطقة وتداخل المواقف الاقليمية والدولية ووجود قوى لا تقل خطورة عن الانظمة نفسها، ولكن ان يصدر هذا الكلام من رئيس وزراء، اي السلطة التنفيذية الاعلى في البلاد فهو امر غير مقبول، خصوصا وان العراق بحاجة الى العودة الى وضعه الاقليمي بشكل ايجابي، وما صدر من تصريحات عراقية تؤثر سلبا على أي دور عراقي مقبل، حتى وان كان المدخل هو قصة quot;مناهضة اسرائيلquot;.. فهذا العداء لم يشفع للكثير من بلدان المنطقة التي تعصف بها عملية التغيير، على العكس يكون احيانا ذا نتائج عكسية.
وثمة مفارقة في هذه التصريحات، فمن جهة تتحدث الطبقة السياسية الحاكمة في العراق عن ضرورة ان تعم الديمقراطية في المنطقة وأن تسقط الدكتاتوريات، حتى وان كانت التحولات بفعل زلزال خارجي، ومن جهة اخرى نجد ان اغلب من يتبوؤن مراكزا سياسية في العراق quot;الجديدquot; يتخوفون من التحولات العربية.
ومن الغريب ان بعض الدول التي تحصل فيها ثورة اتهمت من قبل الحكومة بالتورط في اعمال عنف في العراق، فليبيا متهمة بدعم تنظيم القاعدة والجماعات المعادية الاخرى بالمال، وسوريا اتهمها المالكي مرارا بالوقوف وراء تسلل وتدريب مقاتلين من القاعدة واليمن تحتضن تنظيمات بعثية، وحتى مصر مبارك وتونس بن علي لم يكن موقفهما ايجابيا من العراق.
ومن الغريب ان بعض الدول التي تحصل فيها ثورة اتهمت من قبل الحكومة بالتورط في اعمال عنف في العراق، بل ان كلها تقريبا متهمة بلعب دور سلبي في العراق وفي تأزيم الاوضاع او على الاقل انها متورطة في دعم فصيل سياسي ضد اخر.

فمالذي تغير؟
يبدو ان الطبقة السياسية العراقية تخاف من التحولات الاقليمية لانها ببساطة تحرمها من اللعب بهذه الورقة والاستفادة منها في اطار الصراع السياسي والتوازن الداخلي، فمعروف مثلا ان التقسيمة الحكومية الحالية حصلت بموجب صفقة ايرانية تركية سورية تحت رعاية امريكية.
كما تدل تلك التصريحات على ذهنية لم يستطع بعد ان تتأقلم مع المرحلة الديمقراطية التي تعني باختصار تقرير المصير بشرط ان لا يكون على حساب حياة الناس وحرياتهم الطبيعية. فهو لم يدرك بعد ان حياة الامم والبلدان والشعوب لن تكون مستقرة الا من خلال بناء وجود حقيقي للافراد وكفل حياتهم الحرة وليس من خلال قهر الفرد تحت لائحة الدفاع هو هوية المجتمع. فما قيمة ان يكون الشعب مستقلا اذا كان خاضعا للقهر والقمع؟ بل وكيف يمكن لمجتمع يفقد حرية افراده ان يكون مستقلا عن التأثيرات الخارجية؟
وهي ايضا لا تختلف كثيرا عن تلك التي اطلقت بعد سقوط صدام حسين عندما قيل من قبل ابواق النظام الرسمي العربي ورواد الفكر الديني والطائفي والعروبي المتطرف بأن quot;المشروع الصهيونيquot; يتحكم بالعراق لتبرر بذلك اعمال الجماعات المسلحة تحت شعار ذلك المشروع، وهي لا تختلف كثيرا عن تبرير القمع في البحرين بانه لحماية البلاد من هيمنة عدو متربص عبر الخليج..
لذلك فان هذا الموقف وامثاله لم يكن موفقا، فما يحصل في العالم العربي هو فرصة العراق الحقيقية لبناء علاقة جيدة بجيرانه، على الاقل من خلال اتخاذ موقف مترو وعدم الاستعجال في أي خطوة تؤثر على العلاقة بدول المنطقة وتحديدا بشعوبها، فمشكلة العراق بشكل اساس لم تكن مع الشعوب العربية انما مع الثقافة التي بثها النظام الرسمي العربي والتي انتجت في ذهنية الكثيرين quot;صدام البطلquot; وquot;الزرقاوي المقاومquot;.
وعودة العراق لدوره الطبيعي كبلد محوري في المنطقة لن يكون من خلال استخدام ورقة العدو الخارجي مجددا في الصراع الاقليمي والداخلي، لأن هذه الورقة لا تنتمي بأي حال من الاحوال للحظة التي نحن فيها او للمرحلة المقبلة، اي مرحلة بحث الشعوب عن خياراتها الداخلية لبناء الذات وتقويم اسس الدولة السليمة.
ربما تخفق الشعوب او تمر بالعديد من الازمات كما مر العراق ويمر، ولكن في نهاية الامر ان مواجهة أي عدو والتعامل مع أي قضية لن يكون بشعب مرهق وفقير وجاهل، انما لابد ان تستمد القوة وجودها من شعب مرفه ومتعلم وواع لما يفعله.
وان العودة لاستخدام موضوع اسرائيل بنفس الروح السابقة وعدم البحث عن اساليب لتجديد التعاطي مع الموضوع هو دليل فشل داخلي يعوض بمحاولات البحث عن اساليب خارجية تسوق للداخل وفي الاقليم لأنها اساليب غير ناجعة...
في السابق استخدمت هذه الورقة من قبل القوى القومية والعروبية ويبدو اننا اليوم امام استخدامها من رواد الاسلام السياسي لتعزيز وضعها. ويبدو ان هذه القوى التي ورثت جينات الدكتاتوريات بحاجة الى صدمة كي تدرك ان موضوع الصراع مع الاخر لن يكون بشعارات ايدلوجية او بجنان عرضها السماوات الارض، انما بوجود شعب يشعر بنفسه وبقيمته وبافراد يدركون ان انتماءهم لهذه الارض هو انتماء حقوق وواجبات وليسوا مجرد سلعة تباع في سوق العقائد والشعارات.
هناك جيل يتشكل، وذهنية تولد، متى ستأخذ وضعها الطبيعي؟ هذا ما ستكشفه المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة بل والعالم.