quot;بكرة الدور جاي عليكمquot; هذا ما قاله العقيد القذافي للحكام العرب الحاضرين في قمة دمشق عام 2008.. انها نبوءة القذافي للاخرين وهو يرى ان مصيرهم يشابه مصير صدام حسين، ومصيره هو ايضا.
العقيد لم يتوقع حينها ان هذا المصير سوف ينتج عن تحولات داخلية، كان يظن ان ما حصل في العراق يتكرر، تأتي امريكا وتسلم حكاما اخرين للقضاء الوطني كي يحاكموا على الجرائم. لهذا لم يغير سياسته مع شعبه وذهب بعيدا لتغيير سياسته الخارجية ويصاحب امريكا ويصافحها ليحتمي من اي احتمال سيؤدي به الى مصير صدام.
هو تنبأ ولكن ليس كل متنبئ يمارس الخير كي يتخلص من المصير السيء.. لو كان يدرك معنى ما قال جيدا لغير سياسته مع شعبه، فما حصل لصدام لم تكن تكفيه الارادة او الرغبة الخارجية، فمثل تلك الرغبة بلا قيمة لو لم يكن طاغية عرض شعبه لكل انواع القتل والدمار.. ومن لم يرد مصيرا مشابها فعليه ان يغير سلوكه مع شعبه وهذا كلام يشمل خلفاء نظام البعث في العراق ايضا.
فالسر ليس في تحسين العلاقة بالغرب او الشرق، السر في الداخل طبعا، فتغيير السياسة وبناء حياة كريمة لامة تعيش حرية افرادها في حدود الحقوق والواجبات المعروفة في الدول المتحضرة هو السلوك الوحيد الذي يدفع الشعب ليحترم حاكمه، لا ليخافه.
وان ما حصل في العراق، عاجلا ام آجلا، كان يجب ان يكون رسالة مهمة لكل الحكام العرب وبقية دول المنطقة. فالشعوب العربية وان كانت رفضت احتلال العراق وما زالت ترفضه، بل وان بعضها تعاطف مع صدام وادان محاكمته، لكن مثل هذا الحدث فتح المجال امام سؤال عربي:
لمَ يجب ان لا يحاكم الزعماء على جرائمهم؟
ورغم ان بعض السلوكيات التي صاحبت تنفيذ الحكم على رئيس النظام العراقي السابق اساءت للعدالة، ورغم ان الحكم كان يجب ان لا ينفذ قبل ان تفضخ كل الجرائم على الملأ، ورغم ان حكم الاعدام ايا كان بحد ذاته مثير للسخط والجدل ورفض دعاة حقوق الانسان في العالم، ورغم ان خلفاء صدام حسين ليسوا سوى مخلوقاته المشوهة التي سلبت العراق فرصة الانتقال الحقيقي للديمقراطية، رغم كل ذلك الا انها كانت بداية النهاية لعصر الدكتاتور المقدس والحاكم الذي يصفق له الجميع.
يعتقد البعض ان ما يحصل هو ابن لحظته، ابن لحظة البوعزيزي في تونس.. وهو اعتقاد خاطيء، لأنها مجرد لحظة مباشرة آذنت بظهور الاحتجاجات العربية، حيث سبقتها مقدمات وارهاصات وتحولات داخلية وخارجية فسحت المجال لها كي تكون السقوط الاخير..
ان النظام العربي الحالي هو ابن سفاح بين الرغبة في التحرر من الاستعمار قبل عقود ووهم الاشتراكية العالمية.. ومارس هذا النظام باسم التحرر من الاستعمار الكثير من الظلم والقمع، واستفاد من الانظمة الاشتراكية العالمية اشكالا من القهر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي.
قبل عشرين عاما انهار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي واعدم طاغية رومانيا تشاوسيسكو، فانقسم العالم العربي واندلعت حرب الخليج الثانية وتراجع زخم القضية الفلسطينية. حينها انعكس الامر بشكل مباشر في العراق عندما ثار شعبه سنة 1991 على صدام حسين في واحدة من اكبر الانتفاضات العربية المقموعة بقتل عشرات الالوف وتشريد مئات الالوف من ابنائه في اقل من شهر.
في عام 2003 جاءت قوات غازية الارض العربية، واحتلت بلدا مهما هو العراق، الكل وقف ضد هذا الاحتلال لكن غالبية العراقيين انذاك كانوا يتمنون سقوط صدام بأيدي اي كان بعد ان فشلوا هم في عام 91 باسقاطه، في ظل دعم عربي شبه كامل لقمع انتفاضته في ذلك العام.
استنكر العرب، ورفعت الشعوب لافتات المقاومة، ولكن هذا لا يعني شيئا امام حجم التغيير اللازم وامام التحول وتفاعلاته في الذهنية العربية، او بتعبير ادق ان العاطفة كانت اول تعبير لدى تلك الشعوب، وعندما غابت العاطفة او استهلكت بدأت التفاعلات الطبيعية تفرض نفسها، فهناك في الجوار دكتاتور عربي حوكم على جرائمه التي لا شك فيها او في اغلبها..
قد يكون مبارك اقل ظلما وقمعا من صدام او تشاوسيسكو وامثالهما بسبب الاختلاف في شكل النظام السياسي او بسبب الخلفيات التاريخية للشعوب وطبائعها او لاختلاف الاشخاص، ولكن في النهاية انه دكتاتور لابد ان يحاسب امام شعبه.
ومحاكمة الدكتاتور ستبقى واحدة، ايا كان الشخص.. ربما يكون الاختلاف في مقدمات المحاكمة وما ينجم عنها من احكام، الا ان أي موقف من حاكم على انه دكتاتور يجب ان ينسحب على الاخرين ضمانا لعدم الازدواجية.
ويبدو ان شعار الحرية المرفوع في مصر، مثلا، لم يدفع بعض النخب كي تعالج ازدواجية معاييرها واحكامها. فما زال البعض يعتقد ان مبارك يجب ان يحاكم وصدام ما كان يجب، او بالعكس.. هذا التصور وهذه الرؤية تكشف عن ان الذهنية العربية ما زالت مشوشة.
فاراء بعض النخب مثل مصطفى بكري الصحفي والنائب المصري المعروف تشير الى حجم التناقض والى ان هؤلاء لا ينتمون الا للنظام العربي السابق، فبكري الذي يطالب علانية بانزال اقصى العقوبات او اقساها بمبارك لانه دكتاتور وفاسد كما يصف، ما زال يصر على ان معارضته لمحاكمة صدام السابقة كانت مبررة لأنه وقف ضد امريكا.
طبعا امثال هذا الرجل كثر.. بعضهم يبرر لهذا كونه منع بلاده من الحرب، وبعضهم يبرر لهذا لانه حامي رموز الدين والعقيدة، وبعضهم يبرر لهذا لانه فتح بلاده امام الاقتصاد الحديث والغرب وبعضهم يبرر لحاكم طور التعليم او الصحة وبعضهم يبرر لهذا لانه ممانع امام اسرائيل.....
هؤلاء اسوأ عقلية واكثر خطرا من المدافعين علانية عن النظام الرسمي العربي بشكل عام، فمن يدافع هو منسجم مع ذاته، اما الدفاع عن نظام سياسي دكتاتوري والتهريج ضد نظام اخر اشد دكتاتورية فهو نفاق، او عمل مقبوض الثمن.
وحرية اي كاتب او مثقف او سياسي لن تكون مكتملة ان كان موقفه مجزء ومعاييره مزدوجة، ان الموقف العام من الدكتاتورية واحد، وأي اعتبارات اخرى تتيح تبرير الاستبداد والظلم والقمع هي معايير ثانوية، خصوصا وان هذا الاستبداد هو الذي صنع التخلف والتردي والطائفية وجاء بالتدخل الخارجي وساهم في دفع الناس الى احضان الاسلام السياسي والسلفية الجهادية.
فالموقف من الدكتاتورية واحد في أي مكان، وأيا كان مبرر الدكتاتور كي يبقى في الحكم، وسواء كان نظاما حزبيا او اسرة او عصابة...
هذا الكلام لا يعني عدم توجيه النقد للثورات او للمحاكمات او للمعارضين، ولا يعني ايضا ان يكون المثقف او المفكر ثوريا او منساقا وراء الثورة، لكن في النهاية المطلوب هو موقف بمعيار واحد تجاه الجميع وليس تجاه احد دون الاخر لاسباب طائفية او دينية او سياسية او ذاتية.
التعليقات