الفوضى بعد انهيار الدكتاتورية نتيجة متوقعة. كل ما قمعته يبرز للسطح بانهياره. تتنافس الإرادات وربما تتقاتل. ما عاد الطاغية يمسك بالخيوط. كل شيء كان خاضع لجبروته تحرر. والمنعتقون لا يعرفون سوى اثنين قوة القمع وانطلاقة الفوضى. بعد الانهيار تبدأ الشعوب بمرحلة انتقالية تبحث فيها عن البديل. والخلفاء بين خيارين إما أن يساعدوا أممهم لبناء خيار حر أو يصنعوا دكتاتورية أخرى.
بلداننا ليست محصنة من الدكتاتورية ومن الفوضى. هي معرضة دائما للخيارين بل ومسكونة بهما. يسهل للجنرال أو الشمولي أن يحكم بقوة وقمع، كما يسهل أن تنفلت الأمور. وقدر الفوضى في الغالب يصنعه الدكتاتور. هو يربط المصائر به، وان ذهب تتوه. ويستغل الفوضى لبسط نفوذه. يركب صهوتها ويقدم نفسه كقاض عليها، مبررا طغيانه. يستغل حاجة الناس إلى الاستقرار لتمرير لعبته. لتدخل المجتمعات قمعا اخرا وخناقا جديدا.
فالدكتاتور ابن الفوضى وامتدادها. وهو أيضا أبوها وصانعها. وقالها يوما دكتاتور العراق السابق quot;لن أسلم العراق إلا تراباquot;. مهد بعده لانفلات ضرب أطناب الحياة في بلاد اعتادت طويلا على الخوف من السلطة وليس احترامها. وأكثر من مكان عربي سيعاني بعد انهيار الدكتاتوريات. فاستبداد الشرق الأوسط احدث فراغا. خلق إنسانا يعيش في الخوف، وما أن ينكسر حاجزه حتى يرى كل فرد نفسه بديلا عن حاكمه. شعوب المنطقة لم تعتد على الحرية.
لهذا تجد المجتمعات العربية نفسها أمام عثرات عدة لتتعلم الحرية. وتعلمها في فترات الاستبداد ضرب من المستحيل. الشعوب تستدل على الحرية وتطورها عندما يغيب نيرون. في لحظة الدكتاتور تفكر الشعوب بالتحرر منه والخلاص. وفرق بين الحرية والتحرر من الشخص والنظام. هي قيمة أعلى من كونها حرية من شخص أو وضع سياسي محدد.
هذه القيمة لا تتأسس إلا بتشكل حساسية شعب تجاه الاستعباد. إنها تكفل للشعوب رفض عودة الدكتاتورية، والبحث عن طرق للخلاص من الفوضى. الحرية ليست ردة فعل على ظرف ينتهي بانتهائه، هي قناعة وسلوك. في لحظة المحنة يبحث ضحاياها عن الخلاص، وما أن يتخلصوا حتى ينسوها، وحدهم أولئك الذي يعرفون إن الخلاص ليس ابن لحظة إنما ابن تأسيس وبناء، هم من يضمنون السلامة.
إن التأسيس للحرية هو معالجة ملحة لثنائيتي دكتاتور ـ فوضى. وليس ردود الفعل الجوفاء المبنية على لحظة العذاب. في عصر الدكتاتور تعمل الشعوب من اجل الخلاص منه حتى ولو أنتج ذلك فوضى. ووسط الفوضى تعمل كي تقضي عليها ولو بيد دكتاتور. انه تكريس لحلول وقتية تصبح مرضا مزمنا.
في عام 2004 علا صوت بعض المثقفين بضرورة وجود quot;دكتاتور عادلquot; ينهي مذابح الإرهاب والانفلات الأمني في العراق. رغبة فرضتها ردة فعل تجاه الموت اليومي. المفارقة أن أصحاب هذا الرأي من المثقفين الذين ينشطون اليوم بالضد من التسلط في العملية السياسية الحالية. فهل يكون الدكتاتور عادلا يوما ما؟.
البعض فصل حلما على مخيلته، لا صلة له بالواقع. لا يمكن إيجاد حاكم يقضي على الشر، وينمي الخير، ويعامل خصومه بذهنية أن الدولة هي حكم ومعارضة، ويدافع عن حياة مدنية وديمقراطية مستقبلية، من غير وجود مؤسسات ديمقراطية تدفعه للقيام بذلك. ربما يرسم المسرح حاكما بهذه المواصفات. الواقع اثبت إن أنانية الإنسان تكبر كلما بقي في كرسي حكمه. وأنانية الحكام لا يعالجها غير إرادة حرة لشعب ومؤسسات قادرة على كبح جموح الاستبداد. وما دامت الإرادة الشعبية مفقودة، والمؤسسات منقسمة وعاجزة فإن فرصة الاستبداد كبيرة.
تحرر العراق من الدكتاتور بعد عقود التشويه. ثم جاءت الفوضى لتصنع معاناة أخرى. الشعب يريد الخلاص والاستقرار والحياة. من هذه الثغرة قد يتسرب الدكتاتور. هو يجد دائما ما يبرر بداياته. سابقا كانت المؤامرة الخارجية عكاز البداية، ويتعكز على محاربة الفوضى اليوم. ليس شرطا أن يكون الاستبداد بالطريقة المعهودة ذاتها، فالمستبد ليس بالضرورة شخصا واحدا، أحيانا يصبح مجموعة متضامنين يتقاسمون الهيمنة والظلم والاضطهاد.