ثقافة النظام العربي السابق ما تزال مهيمنة رغم انهيار واجهات الانظمة. والانتخابات لوحدها لن تغير من تلك الثقافة، ربما تكرسها. واستمرار هذه الثقافة بفاعليتها في صناعة الرأي وخيار الافراد ستؤدي بالضرورة الى افراغ خيارات الناس من محتواها الحر. لأن الذهنية التقليدية لا تؤمن بالحرية. واستخدامها لبعض ادوات الحرية هو مثل استخدام التقنية الحديثة لتخريب التكنلوجيا.
الانتخابات بالاحزاب والقوى السياسية الموجودة لن تنتج نظاما بثقافة مختلفة وحديثة. المعارضون السابقون هم ابناء بيئة وفضاء النظام الذي عارضوا سلطاته، تكوّنوا ضمن تلك البيئة وتخمروا بها. لهذا هناك حاجة لتحرير الانتخابات من فكرة انها الغاية.
ومن واجب السلطات البديلة المؤقتة ان تنتبه لهذه القصة. هي معنية بوضع معالجات انتقالية تعزز من نجاعة الانتخابات. ومسؤولة قبل غيرها عن منع تحول الصراع الانتخابي لمهرجان يقوده غير الديمقراطيين، ويعيدون به انتاج الانظمة السابقة بايدلوجيات جديدة. هذا اذا تعاملنا مع هذه السلطات بحسن نية. العكس هو الحاصل، ثقافة الانتخابات الغاية هي المهيمنة على عملية التحضير. كما ان العلاجات التي توضع والقرارات المتخذة تشير الى احد احتمالين؛ اما ان السلطة المؤقتة لا تفهم، او انها مرتاحة لهذا الوضع الشاذ. ومن يقود مرحلة بعد الثورات يفتقر الى الشفافية، والاجراءات تبدو بطيئة او غير واعية.
وتسير على المنوال نفسه النخب غير الحزبية. المحللون السياسيون وبعض الكتاب والاعلاميون يعيدون تكريس خطابهم السابق مع تغيير التموضعات. يضاف الى ذلك ولاءاتهم الفئوية والحزبية والطائفية والقومية التي تجعلهم ينتجون خطابا سياسيا وليس خطاب تقييم ونقد.
الناشطون المدنيون والمثقفون ايضا يتنافسون للانتماء للاحزاب والدخول في معترك الصراع السياسي كجزء من السلطة والمعارضة الحزبية. وهو ما سيؤدي بالضرورة الى افراغ النخب من قدراتها المستقلة وادخال رجالها ونساءها في تشويهات العمل السياسي المباشر. ما يبعد هذه الشريحة المهمة من القيام بمهمتها كقوى مؤثرة غير مسيسة تدافع عن بناء دول حديثة تحترم الانسان.
الذي حصل في العراق يتكرر في العالم العربي، نظام رسمي قمعي ينهار بفعل عامل ما، لن يكون البديل عنه سوى تكريس لجوهر المشكلة؛ نظام لا يؤمن بالفرد والحرية، وطبقة سياسية تتعامل مع الانتخابات كغاية وليس كوسيلة، ونخب تنساق واعية او غير واعية لتكريس غائية صندوق الاقتراع. وتم التعامل مع المشكلات باستسهال عال. في حين انها هي في الغالب عميقة وجوهرية ولا تتقبل ان تُعامل بمجرد شعارات جوفاء.
مثلا ان القفز على الانقسامات المجتمعية الواضحة وعدم الاعتراف بها تكرار لنفس السياسات السابقة. النظام العربي السابق نجح في قمع هذه الانقسامات كي يبرر لنفسه زعم عدم وجودها. فماذا سيفعل الخلفاء الذين لا يملكون القدرة على القمع، او ان البيئة والمرحلة لا تسمح لهم بممارسة القمع نفسه؟. انهم يلجأون الان الى الشعارات العريضة، والحديث عن المؤامرة الخارجية. مع ان هذه الانقسامات تستدعي علاجات عملية وليس اغماضا غبيا.
وتبرز القوى غير السياسية غير المدنية تحديا رئيسيا يواجه أي انتقال للديمقراطية. ستعمل برصيد معاداتها للانظمة السابقة، وتستثمر خلو البلدان من المنافسين. لكنها خلال عقود طويلة من معاداتها للانظمة السابقة لم تكن تطالب ببناء ديمقراطية، ما طالبت به لا يختلف كثيرا عن هيئة النظام العربي السابق. بعضها اليوم يروج لنفسه كمدافع عن الديمقراطية، هذا مثير للشكوك. قد تكون باحثة عن الخديعة للوصول الى الحكم من خلال صناديق الاقتراع والانقضاض على الخيار الحر فيما بعد.
المهم في المرحلة الحالية هو معالجة هذه المشكلات وخلق ضمانات لتحديد المسار نحو الديمقراطية. هناك فترة من الزمن تندرج ضمن الزمن المهدور، او زمن الخسائر. هي فترة انتقالية تشهد الصراع الحقيقي اللاحق للبداية. واهم ما يمكن ان يصنعه الحراك المدني هو ان لا تمرر فكرة ان الديمقراطية هي عملية انتخابية فقط. فالديمقراطية هي صناعة الفضاء الحر الذي يتيح للفرد ان يختار بدون ابتزاز او ضغط وتخويف. كما انها فضاء تولد فيها قوى تؤمن بخيارات الافراد وبحماية كل ما من شأنه ان يكرس الخيار الحر.
والحاجة ماسة ايضا للوضوح والشفافية والمباشرة في الخطاب وتحديد المشكلات وعدم اللجوء لخطاب شعاراتي مكرر. وهذا ما افتقرت اليه الانظمة العربية التي تتهاوى. فهي قفزت على المشكلات، وكذبت ونافقت كثيرا. فغابت المعالجات المستمرة والناجعة، وطمرت التحديات الملحة بغشاء من الشعارات. وما تزال القيادات والقوى البديلة تفتقر الى مثل هذه الشفافية، وتعاني من الكذب والنفاق.
التعويل الاهم على القوى المدنية غير السياسية، من مثقفين ومنظمات مجتمع مدني واعلاميين ورجال اعمال. هذه الشريحة تضمن بعضا من ديمومة الصراع وعدم خفوت المطالبة بالحرية والديمقراطية الليبرالية. ويعول عليها مستقبلا في ان تساهم في ظهور قوى سياسية مدنية بخطاب وتصور مختلف.
واذا ما اجرينا مقارنات بين الدول العربية التي انهارت انظمتها، نجد ان وضع تونس الافضل. مرجع الافضلية الى وجود مدنية توارثها التونسيون من بورقيبة. هم لم يفتقروا يوما الى الحياة المدنية، ما احتاجوا اليه هو مدنية ديمقراطية وعدالة اقتصادية. لذلك فإن اكبر الاحزاب الاسلامية quot;حزب النهضةquot; يجد نفسه مضطرا باستمرار الى الدفاع عن القوانين غير الدينية. وهناك شريحة واسعة من الناشطين والاحزاب قادرة على ان تشكل حاجزا امام نشوء ديمقراطية مفرغة من محتواها.
وهذا ما افتقر اليه العراق بعد التغيير. كان المشهد سياسيا بامتياز. الدكتاتورية جردت البلاد من أي ملمح لقوى مدنية. العائدون انذاك كانوا تنظيمات سياسية دينية او قومية منشقة. والمثقفون المعارضون هم في النهاية جزء من التحزب السياسي او لا يملكون تأثيرا. الان بدأ النشاط المدني ويحتاج الى فترة اطول ليدخل الاجواء. لكن الخوف هو ان تكون الامور تدجنت لصالح السياسي على حساب المدني.
مصر نموذج اخر، لا يحظى بتفاؤل تونس ولا يعاني من نفس تشاؤم العراق. في اكبر البلدان العربية توجد تقاليد. النظام الذي سقط لم يكن بحجم استبداد بن علي ولا بدموية وبشاعة نظام البعث العراقي. فهو لم يضيع بوصلة تقاليده المتوارثة منذ عقود طويلة. لكنه يفتقر لاحزاب مدنية قوية. وهو يعاني من خطاب نخبوي شعاراتي او مشتت.
الرمال المتحركة في العالم العربي تنبئ بجديد، فهل سيكون الجديد هو القديم بجلد اخر..؟ لننتظر، كي تكتمل دائرة الانهيارات.