طالما خشي العقيد القذافي الغرب فجاءته الرصاصة من الداخل. شرق ليبيا فجر البلاد على العقيد، وما كان الغرب معنيا جدا بما قدمه بعد سنة 2003 من تنازلات معلنة وغير معلنة. بقي خائفا من مصير زميله دكتاتور العراق السابق.
القذافي لم يُقتل بعدل سنّه، انما بطريقته نفسها عندما تعامل مع خصومه. نمت في داخل شرنقته المغلقة بالظلم والمليئة بالام روح الانتقام لتقتص منه، مثلما اقتص ظلما وعدوانا وبغيا من شعبه. اسس لروح الانتقام وسادية الانسان في بلد يقال انه يوم كان السنوسي ملكا عليه لم يعرف عن شعبه العنف.
رحل العقيد وأبناؤه وتاجه ومسدسه الذهبي وكتابه الاخضر وجماهيريته المجنونة وعلمه ذو اللون الواحد. وبمعزل عن توصيف الطريقة التي قتل فيها او ما نشر من صور حول لحظاته الأخيرة، فإن المهم في ليبيا اليوم هو ليبيا. افرادها، شرقها وغربها، رفاهيتها وحرية ابنائها. وما عاد مهما التمييز بين من ثار ومن قعد. انتهت الثورة بموت القذافي وبدأت مرحلة ما يمكن ان يقدمه الليبيون لانفسهم.
المخيف في هذا البلد الشاسع هو حجم الانتقام وفقدان الشعور بالتسامح داخل فضائه، وهو فضاء مليء بعقد صنعها العقيد. تاريخ من القمع لن يسهل التخلص منه، فالامر لا يعالج بانتخابات ولا بمجرد التطبيل الاعلامي الخادع. هذا الماضي الحاضر في كل التفصيلات، ليس هو العلم الاخضر ولا هو النظرية الثالثة المزعومة وليس هو باب العزيزية. الماضي هو تلك الثقافة التي تغلغلت داخل كل فرد لتصنع منه عقيدا اخر يظن بنفسه ما ظن العقيد عندما ركب الدبابة محتلا الحكم والعقول.
شعب ليبي يرغب بحياة أفضل، والأفضل بالضرورة هو حياة اقتصادية وسياسية ومدنية تجعل من الليبيين يكسبون نتائج خلاصهم من الدكتاتور ولا يندمون. غير ان بعض الثوريين اليوم ليسوا معنيين بهذه الافضلية، ما يعنيهم هو تحقيق اجندة عقائدية وسياسية محددة.
هذه المجموعة الان تملك القوة والسلطة، وهنا الخطر. السلاح مملوك لها، والافكار السلفية والاصولية حاضرة، والرغبة بالتسلط اذا وجدت الفرضة فلن يفوتها اصحابها. ومن هم في القرار السياسي الليبي الان هم ممن كان مع القذافي وتحمل استبداده وتماشى معه. لذلك يحتمل دائما ان يتماشوا مع من يتحكمون بالأرض ويملكون زناد السلاح. ولا يمكن فهم اعلان الشريعة المصدر الاساسي للتشريع ونقض كل قانون يتعارض معها في اول خطاب بعد النصر الا انها نزول عند رغبة اصحاب القوة السلفيين في الشارع.
ويمتلك حملة السلاح قوة إضافية بفعل الدور الذي لعبوه في اسقاط حكم القذافي. لذلك سيروجون لشرعية ثورية تعزز من دورهم. منيّة الثوار اذا انتصروا، اكثر ما يخيف في المراحل المقبلة. خصوصا وان الذهنية العربية محكومة بثنائيتي الغالب والمغلوب. والغالبون هم مقاتلون وصلاحياتهم للعمل السياسي تستدعي إلقائهم quot;فكرة السلاحquot; في الصراع الداخلي.
الا ان الغالب الحقيقي في الثورة هو الشعب بكامله. من تحرر ليس اولئك الذين قاتلوا من الميادين فحسب، انما عموم شرائح الشعب التي عانت من الدكتاتور. المقاتلون هم مثل أي جيش يدافع عن بلده ضد محتل غاشم. فهل يكفي الانتصار في معركة دفاع الجيش ضد عدو اجنبي مبررا لأن يصبح الجيش سيد القرار؟. لا يحق لمن ساعد شعبا على التحرر ان يشرعن لنفسه استعباد هذا الشعب بأي شكل كان.
ان تقسيم السلطة في ليبيا على اساس انها مغنم الغالب في معركة الثورة هو التهديد الاكبر لحياة افضل. ثقافة الغالب ما عادت نافعة، انها بنت مرحلة انتهت منذ امد بعيد. تبنى الامم المعاصرة على اساس المساواة في الحقوق والواجبات وترك الفرصة لكل الافراد كي يعيشوا حياتهم ويعبروا عن ارائهم ويتمتعوا بما يمتلكون من حقوق طبيعية.
خطوة اولى اتخذتها ليبيا، انتهى القذافي، كما انتهى يوما صدام. العقيد الذي جر على بلده الويلات وقع في مصيرخافه يوما، انه خاف يوما من مصير المهيب، فتصالح مع الغرب، فجاءه المصير ذاته من مكان اخر. لكن الاثنين زرعا في بلديهما ما لا يمكن معالجته الا عبر زمن طويل ووعي بحرية حقيقية.
في العراق يبقى تأثير صدام. ثقافة الاستبداد سيدة الموقف، الغالب المتسلط هو في نهاية الامر عنوان رئيسي للمشهد. والخاسر يبحث عن غلبة مماثلة لفرض امر واقع. السلطة يتم تقاسمها باعتبارها مغنما وليس على اساس كونها منطلقا لبناء دولة متقدمة ومدنية، كما تفترض شروط الدولة الحديثة.
ربما لا تشبه ليبيا العراق بالتفصيل، فطبيعة الانقسام الداخلي مختلفة، لكن روح الدكتاتور تبقى واحدة سواء في العراق ام في ليبيا. واذا كان ثوار ليبيا استعجلوا مصير جلادهم كي لا يرونه في محاكم يستعرض فيها بطولاته ويستدر عواطف الجمهور ويخدع مشاهديه كما فعل صدام، فانهم لم يتخلصوا من ذلك بشكل جيد، بل كرروا المشهد بطريقة اخرى.
العالم العربي وان اختلفت تفصيلاته، يبقى عالما واحدا. دكتاتوره ابن تجربة تمثل تراكمات موحدة ومصيرا واحدا وتحديا له الاولوية. واهم تحد تقف امامه الشعوب وخلفاء المستبدين هو الحرية.