اطلال مدونة شابة بعريها عبر صفحات الانترنت مؤشر على تصاعد المواجهة مع تيار اخر يعتبر المرأة كلها عورة. مواجهة من هذا القبيل متوقعة، في ظل حضور متطرف طاغ يرى في عيون المرأة عورة يجب ان تستر.

ففي الطرف الاخر تظهر مرشحة quot;سلفيةquot; مصرية، تقول انها ستعمل على quot; منع الاختلاط بين الجنسين، وتخصيص ملابس سوداء للنساء وأخرى بيضاء للرجالquot;.. وفي الجوار السعودي اعلنت شرطة quot;الامر بالمعروف والنهي عن المنكرquot; انها ستجبر النساء على ستر عيونهن، خصوصا ذوات العيون المغرية.

قد لا تعبر الفتاة التي تعرت عن تيار نسوي يدافع عن حريته، فليس كل من يدافع عن الحرية والمساواة ينادي بالعري او يتقبله، غير ان هذه الحالة تعبر عن حجم الصراع، وعن انماط من التفكير تصل احيانا الى التقاطع في كل الرؤى والتصورات. رجال ونساء دين يدافعون بقوة كي يستروا quot;عوراتquot; المجتمع، وامرأة تتعرى متجاوزة كل مراحل quot;العورةquot; رافضة كونها quot;عورةquot;.

الاكثرية منشغلون اليوم بتقييم ما فعلته المدونة بالصحة والخطأ. انها الثنائيات التي يصر الاكثرية عليها لتوصيف الاشياء. في حين ان مفهوم الصحة والخطأ يبقى نسبيا في ظل تعقيدات الواقع والعوامل الضاغطة المتوفرة، التي تجعل من الصحيح في ظرف، خطأ في ظرف اخر.

المهم في هذه القصة ليس ذلك، انما لمَ ذلك؟
المجتمع العربي في فترات دكتاتورية الانظمة الحاكمة التي تتهاوى، كان منشغلا في مشاكله مع السلطة. فباستثناء العراق ايام البعث وبعض بلدان الخليج، اغلب البلدان العربية كانت تتمتع بشيء من الحريات المدنية، وتعاني من غياب الحرية السياسية بنسب متفاوتة. هذه الحرية اضافة الى الظروف الاقتصادية تمثل العمد الاساس لحركة الشعوب في الوقت الحاضر.

وما ان يبدأ المجتمع في الحصول على حرية الرأي، فإن افراده، بالتدريج، سينتفلون للبحث عن حرياتهم الاخرى بمجرد ما يشعرون بأن هناك ما هو اكثر من حرية الرأي، وان هذه الحريات تمثل حقا. صحيح ان بعض تلك الحريات متوافر، ولكنها تبقى منقوصة، لأنها دائما خاضعة لاشتراطات دستورية وقانونية ومعايير قبلية او دينية تحت اطار مصطلح quot;الاداب العامةquot; الفضفاض.

خصوصا وان الوضع العربي بشكل عام يتجه لقضم ما هو متوفر من الحريات. فالبدائل تغلب عليها التيارات الاصولية الرافضة للحريات المدنية والشخصية. لذلك ان الدفاع عنها سيكون عنوانا للكثير من الناشطين والمثقفين وفي اوساط الشباب.

ان التعبير عن السأم السياسي من السلطة، والتعبير عن حجم المأساة بلغ ذروته في حالة البوعزيزي عندما احرق نفسه. وهي حالة انعكست فورانا عربيا مدويا. كلنا يرفض الانتحار مهما كان سببه، ولكن الانتحار هنا تحول الى ثورة.

هناك من يرفض ايضا سلوك quot;علياء المهديquot; الفتاة التي تعرت في العلن، سلوك قد يكون مرفوضا وفق تربيتنا الشرقية التي تنظر لعري الجسد عيبا مهما كان ايماننا بالحرية. غير ان مثل هذه الحالة جزء من ظاهرة الانتحار رفضا للتسلط السائد. فسقوط الانظمة اطاح بهيكلها السياسي، ولكن قيمها، رؤاها، مجتمعها، اضدادها والاسس التي اشتغلت تلك الانظمة عليها ما تزال موجودة. بل ان وجود الاسلام السياسي قد يؤشر الى خطر اخر، هو خطر التدخل بخصوصيات الناس، انه التدخل بأي قدم يدخل الانسان الى الحمام، وكيف يأكل وكيف يتضاجع.

ربما ان حركات التدين السياسي، بشقها المتمثل بالاخوان تحديدا وامتداداته العربية الاخرى، اوجدت مرحلة من التصور الديني تجاوز التفصيلات الانفة الذكر. لكن هذا الفكر ينتمي الى الفصيل المتطفل نفسه الذي يشعر انه يعلم الناس جميعا كيف يعيشون، عبر اشكال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الثلاثة quot;القلب او اللسان او اليدquot;. انه يتدخل في شؤون اقل ولكن اكثر خطورة وتنظيما من نظيره السلفي.

واذا كان المثقف quot;العضويquot; يرى ان التصدي لهؤلاء يأتي من خلال النقد والحوار والكلمة، فإن اخرين قد لا يرون ذلك، بل يلجأون الى استخدام الضد المعاند، مثل العري، كما فعلت تلك الفتاة.

كثيرون سحبوا خناجرهم ملوحين برفض ما حصل وضرورة التصدي للفتاة، لأنها اخطأت بحق quot;الجسد المقدسquot;.
فهل سأل احدهم لم جاء هذا الخطأ؟ أليس هو نتيجة لوضع شاذ تشكل، وهناك من يعزز من شذوذه وتطفله؟ الا تعبر هذه الفتاة عن مخاوف جيل كامل من ان يحرم بالقمع من الكثير؟

ففي مثل هذه المجتمعات الشاذة تكون الاخطاء هي صانعة البطولة، انها الـquot;لاquot; الخاطئة بمعايير بعض القيم، والطبيعية اذا ما قسناها بحجم الكارثة التي تتعرض لها العقول من جراء هذا البطش الفكري المتطرف الذي يمارسه الماضويون، والركام الهائل من تركة شمولية اعتبرت نفسها وصية على الانسان.

السلوكيات الموصوفة بالخطأ هي في النهاية بنت المجتمع. الفعل ورد الفعل هو من نفس الطينة والطبيعة، الفعل القاسي يواجه برد فعل قاس . لكن البوعزيزي لم يقس الا على نفسه، حرق نفسه كفعل ينطوي على رسالة، نحن quot;نحتج عليكم بالانتحارquot;. قد لا تكون الفتاة رمزا، لأنها اختارت الجسد تعبيرا، وهو تعبير رخيص بالمعايير الشرقية، ولكن من المؤكد انها ايضا تنتمي للفصيل نفسه الذي يجلد الذات للاحتاج.

من يدافع عن التغيير عليه ان يدرك انه لن يكون سياسيا فقط، ما حصل اعمق واكبر بكثير من كونه حالة سياسية. قد تستفيد بعض الاطراف في مرحلة ما، ولكن عاصفة ما حصل ستفكك كل المبادئ الاساسية التي يشتغل وفقها المجتمع، وتعيد انتاجها بعد ذلك، بشرط ان لا يولد من داخل الفوضى دكتاتور اخر.