ربما تكون الازمة السياسية العراقية الحالية هي الاسوأ منذ تشكيل مجلس الحكم. الا ان حدوثها كان متوقعا.
المفاجئ انها لم تتأخر كثيرا، بل جاءت في يوم انسحاب اخر الجنود الامريكيين من العراق، وبعد يومين من عودة رئيس الوزراء العراقي من زيارته الامريكية.
متوقعة هي المخاوف من ان تؤدي الازمة الى تدمير العراق، او تقسمه. لكن سيناريو التقسيم ليس احتمالا وحيدا، فهناك سيناريوهات اخرى.
خلال السنوات الثمان الماضية لعبت امريكا باستمرار دور الوساطة لمعالجة الازمات. وغالبا ما نجح الامريكيون في تسويات، اغلبها مؤقت. الدور الامريكي بعد الانسحاب مختلف. والساسة سيواجهون واقعهم بدون نشاط قوي للعراب الامريكي. ومن الصعب الحديث في المدى المنظور عن تغير في السياسة الامريكية، مثل اعادة القوات الى العراق، او الدفع باتجاه تغيير جوهري في الخارطة السياسية.
الامور اليوم وصلت الى مفترق طريقين. نجاح القوى السياسية في تسوية كاملة سينقل العراق الى مرحلة مختلفة، والفشل ايضا يؤدي الى مرحلة اخرى... اما الاستقرار او التقسيم. والمؤشرات تدل على ان الامريكيين يتعاملون مع الاحتمالين، رغم ميلهم quot;المعلنquot; لعراق موحد.
خلال مرحلة quot;التهدئة المؤقتةquot;، الكثير من الاطراف اعتاشت على الفوضى، هي ضمانتها لكسب الناخب سياسيا وليس من خلال برامج انتخابية، وتحقيق علاقات مشبوهة، واستخدام العنف كوسيلة، والاثراء على حساب المال العام. وهذا انعكس على اداء الجميع.
فما هي سيناريوهات الحل، وما هي سيناريوهات الانهيار الاخير؟
ان خيار الديمقراطية بصيغتها المتكاملة، او الليبرالية، في العراق الحالي مستحيل، او صعب جدا. فهذا البلد، كأغلب البلدان العربية، لا يملك المؤهلات الكافية لمثل هذا التطور.
ايضا الصيغة المشوهة للديمقراطية التوافقية في العراق كرست الفشل. الازمة الاخيرة اثبتت ذلك. وهذا يجبر الجميع على التفكير باجراء اصلاحات تؤهلها لأن تكون اكثر كفاءة.
سيناريو الصيغة الجديدة للديمقراطية التوافقية في العراق يقتضي احد حلين:
احداهما اقامة اقاليم تفي بمتطلبات الطوائف، كما وفت سابقا بوضع ومتطلبات الاكراد، عندها يمكن قبول تشكيل حكومة اكثرية. اقامة الاقاليم تقلص من صلاحيات الحكومة الاتحادية ما يجعل الصراع الطائفي اقل حدة.
مؤكد ان انشاء اقاليم سنية يحتاج الى مجموعة من التسويات، بدء من الاتفاق المبدئي على توزيع الثروة وانتهاء بقضية الحدود الادارية المتنازع عليها بين المحافظات.
الصيغة الاخرى للتوافق هي ولادة قائمتين انتخابيتين او اكثر تضم احزابا تفي بتمثيل الطائفتين. وأي منها يفوز في الانتخابات يشكل الحكومة بتوزيع عادل للمناصب، والاخريات تذهب للمعارضة. الانتخابات الماضية اشرت ان القوى السياسية العراقية فكرت بمثل هذا الموضوع، الا انها لم تترجم ما فكرت به بطريقة سليمة.
حاولت القوائم الثلاث الرئيسة في العراق ان تعمل بهذه الصيغة. الا انها لم تتحول الى فعل حقيقي. دولة القانون ضمت اتباعا من السنة ولم تضم شركاء، الائتلاف الوطني جاء باحزاب سنية ضعيفة، وزعيم حركة الوفاق اياد علاوي لم يمثل سوى فصيل quot;شيعيquot; واحد مقابل سبعة او ثمانية كيانات سنية قوية في العراقية.
هاتان الصورتان تحتاجان الى وقت لتنفيذ احداهما، فالعراق ان بقي موحدا خلال العشر سنوات المقبلة يمكن ان يحصل على فرصة افضل للحصول على ديمقراطية توافقية بصيغة انجع. في النهاية ستجد الطبقة السياسية العراقية نفسها مضطرة الى التعامل مع احد هذين الخيارين على المدى المتوسط.
فما هو الخيار المتاح حتى ذلك الحين..؟
ان الازمة الاخيرة وارتباطاتها الاقليمية وضعت العملية السياسية امام احتمالين؛ اما ان تتداعى لتصل الى حرب اهلية وتقسيم للعراق كما حذرت حكومة تركيا مؤخرا، او ان تجبر السياسيين على عدم اللجوء لخيار التصعيد، والعمل على تدعيم مؤسستي البرلمان والحكومة.
من يراقب نبض الشارع يدرك ان تعويل البعض على الحرب الاهلية خاطئ، لاننا امام مجتمع لا يريد العودة لسنوات الجمر.
السيناريو الارجح للسنوات المقبلة هو اللجوء لادوات جديدة تفي بشروط الاستقرار وفي الوقت ذاته تحمي البلاد من الانزلاق للدكتاتورية.
في الجولة الاخيرة من الخلافات ربما ينجح المالكي في دفع خصومه على القبول بشروط جديدة للعبة. وهنا يبدأ دور الشركاء، فاللجوء للخيار الطائفي من قبل الاقليات السياسية لن يكون ناجعا، بل سيؤدي الى تعزيز الاصطفاف الطائفي من قبل الاكثرية السياسية، اي مزيد من الخسارات للاقلية.
خلال عامين مضيا كان هناك نوعان من التحركات. الحراك الطائفي كان الاصل في التعاطي مع الخصوم، وهو حراك تأزيم لم يقدم اي نجاحات تذكر. الغريب ان العراقية اعادت خطأ جبهة التوافق قبل سنوات عندما انسحبت ووجدت ان الانسحاب بعد ذلك لم يكن لصالحها، بل عزز من قوة خصومها، وعادت بدون مكاسب.
في المقابل وجد حراك عابر للطائفية، مثل ذاك الذي حصل على خلفية ازمة الهيئات المستقلة، فهي لم تكن طائفية، بل خلاف بين المالكي وشركائه، وكان لدى مجلس النواب الفرصة بأن يلعب دورا مهما يحمي فيه هيئتي النزاهة والانتخابات من التبعية للسلطة التنفيذية، حينها امكن للمجلس ان يشكل اصطفافا غير طائفي يمنع من السيطرة على الهيئات.
وضع الاولوية لمثل هذا الحراك يمكنه ان يوجد توازنا غير طائفي، انه الخيار الوحيد الذي من خلاله يمكن منع طغيان السلطة. تطييف القضايا لن يحقق هذا الغرض، التجربة اثبتت ذلك.
الازمة اليوم عرّفت الطرفين الشيعي والسني في معادلة الحكم ان الامور وصلت الى مفترق الانهيار الكامل او الاستقرار. وطريق الاستقرار غير ممكنة الا بلجوء الاكثرية لمنطق غير طائفي يعطي الاقلية فرصة الانخراط بشكل عادل في الحياة السياسية، وهو غير ممكن ايضا الا بامتناع الاقلية عن اللعب على وتر الطائفية كي تضمن عدم حصول اصطفافات مضادة ينتج عنها استئثار بالسلطة..
رغم صعوبة الازمة، ورغم ان رؤوسا سياسية قد تسقط فيها، لكني اجدها الفرصة الوحيدة التي تضع الفرقاء كلهم امام المشكلة لمعالجتها وحدهم دون وجود رعاية.
التعليقات