مع صعود إيران إلى مستوى دولة إقليمية كبرى مؤثرة في الجغرافية السياسية لمنطقة الشرق الأوسط تبدو السياسة الإيرانية أمام مجموعة من التحديات الدولية والإقليمية والداخلية، ومع هذه التحديات والتي تبدو انها مرشحة إلى المزيد من التعقيد والتصعيد في المرحلة المقبلة تظهر إيران وكأنها أمام خيارين:
الأول: السير حتى النهاية على النهج الثوري لسياسة الرئيس احمدي نجاد، بما يعني ذلك الصدام مع الإدارة الأمريكية التي تتبع هي الأخرى نهجا تصعيديا متدرجا ضد طهران على خلفية برنامجها النووي.

الثاني: ان تنجح طهران في تحقيق ما يشبه التسوية أو التفاهم مع الإدارة الأمريكية على مجمل القضايا الخلافية المتفجرة في منطقة الشرق الأوسط والخليج ( العراق - لبنان ndash; الملف الفلسطيني ndash; سورية.... ) ورغم صعوبة حصول اختراق سياسي في هذه الملفات نظرا لتعقيداتها وتعدد أطرافها وتناقض السياسات بشأنها.. الا ان لغة السياسة في النهاية هي لغة المصالح والبراغماتية.
انطلاقا من حضورهذين الخيارين في المعادلة الأمريكية ndash; الإيرانية فان التصعيد الكلامي الجاري على وقع المناورات الإيرانية المتواصلة يحمل معه رسائل مزدوجة على شكل تصعيد يهدف إلى رفع سقف المطالب، وعليه فان التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز ليس سوى مباراة في التصعيد الكلامي نظرا لأن إيران غير قادرة على مثل هذه الخطوة لأسباب محلية وإقليمية ودولية، كما ان واشنطن ليست بصدد حرب ضد إيران بعد الانكفاء على أزماتها المالية واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
من يقرأ التاريخ القريب للسياسة الإيرانية وتحديدا مرحلة ما قبل الرئيس نجاد لا بد أن يرجح فرضية الخيار الثاني وذلك انطلاقا لما أبدته هذه السياسة من براغماتية كبيرة في ملف الحرب على أفغانستان التي أطاحت بحكم نظام حركة طالبان وكذلك في ملف الحرب على العراق ومن ثم غزوه واحتلاله، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل هذه القاعدة البراغماتية مازالت سارية في المرحلة الحالية ؟ سؤال يصعب الإجابة عليه بـ نعم بل ان من يدقق في خطابات الرئيس نجاد وتصريحاته ومواقفه ونهجه لابد ان يذهب إلى الخيار الأخر أي خيار الصدام مع الإدارة الأمريكية بعد ان تحول الخليج إلى صفيح ساخن على وقع المناورات العسكرية الإيرانية وصفقات الأسلحة وحركة المدمرات الإمريكية.
وبموازاة تحول الخليج إلى صفيح ساخن فأن مسألة ضرب إسرائيل للمفاعلات النووية الإيرانية باتت حاضرة بقوة في التصريحات واللقاءات اليومية بين المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين بما يعني ان هذا الملف قد يشهد تطورات مثيرة، وما مسألة اغيتال العديد من العلماء النوويين الإيرانيين في قلب طهران واستخدام التكنولوجيا لضرب هذه المفاعل الا مؤشرات على ان هذا الملف مقبل على المزيد من التصعيد في المرحلة المقبلة.
ثمة من يرى أن هذا التصعيد المتبادل أفرز جملة من التحديات الداخلية لإيران التي باتت تشكل عبئا ثقيلا على السياسة الإيرانية نفسها، ولعل في مقدمة هذه التحديات الداخلية الوضع الاقتصادي الذي يتجه إلى المزيد من التدهور في ظل العقوبات الدولية وانهيار قيمة العملة الإيرانية وانعكاس كل ذلك على الحياة المعيشية للناس، كما ان فرض عقوبات جديدة على إيران ستؤثر على حركة تصدير النفط الإيراني بما يعني فقدان كتلة مادية كبيرة تشكل أساس الموازنة المالية،إذ يشكل النفط 80 بالمئة من موارد إيران الخارجية.
بموازاة القضية الاقتصادية فان تفجر قضية الأقليات القومية والصراعات الطائفية والمذهبية باتت مطروحة بقوة، فقضية القوميات غير الفارسية في الداخل الإيراني: من قضية عرب عربستان في الجنوب إلى قضية الأكراد والأذريين والتركمان في الشمال والشمال الغربي إلى قضية البلوش وغيرهم في الشمال الشرقي، باتت تطرح بقوة في المشهد الإيراني اليومي، إلى درجة ان أخبار المواجهات والاعتقالات والعمليات المسلحة والتفجيرات التي تنفذها المجموعات المسلحة لهذه القوميات تنشرها وسائل الاعلام الإيرانية بشكل يومي، ومثل هذا الأمر بات مشكلة حقيقية نظرا لأن هذه القوميات تشكل قرابة 40 بالمائة من مجموع عدد سكان إيران البالغ أكثر من سبعين مليون نسمه، كما ان لهذه المشكلة امتدادات إقليمية مع دول الجوار الجغرافي كما هو حال مع باكستان وأفغانستان وأذربيجان والعراق... وقد تتحول هذه المشكلات التي تأخذ طابع التوتر في المناطق الحدودية نظرا للتداخل القومي إلى مشكلات ثنائية وربما إقليمية نظرا لتشعب هذه القضايا واختلاطها بقضايا الإرهاب وحقوق الأقليات فضلا عن العواطف والمشاعر القومية التي تتواصل عبر جانبي الحدود وكذلك التنظيمات أو العصابات التي تأخذ طابع مافيا السلاح وتجارة المخدرات، ويضاف إلى هذه المشكلات تلك التي تأخذ طابع الخلاف الشيعي ndash; السني كما هو الحاصل حاليا في المناطق الحدودية الإيرانية ndash; الباكستانية والإيرانية ndash; الأفغانية. بما يعني كل ذلك ان قضية القوميات غير الفارسية مرشحة في إيران للخروج من إطارها المحلي وحتى الإقليمي لتصبح عاملا في معادلة الصراع الجاري بين إيران من جهة والولايات المتحدة ومعها بريطانيا وإسرائيل من جهة أخرى، حيث من مصلحة هذه الاطراف استخدام هذه المعطيات لتثوير الداخل الإيراني، ومثل هذا التوجه غير مستبعد في مراكز القرار والدارسات في الغرب، حيث يقوم هذا التوجه على ممارسة المزيد من الضغوط والتصعيد ضد إيران بهدف إرهاق النظام اقتصاديا واجتماعيا ومدنيا ودفع البلاد إلى ثورة اجتماعية قوية على غرار ثورات الربيع العربي خاصة وان التيار الإصلاحي الذي نجح النظام في اخماد احتجاجاته خلال المرحلة الماضية مازال قويا وبات يستعد لانطلاقة جديدة مع الانتخابات المقررة في شهر آذار المقبل.
ثمة من يرى ان التصعيد الإيراني ولو الكلامي مع الخارج يشد الداخل إلى الخارج، وان هذه سياسة غربية مدروسة هدفها إيصال الداخل الإيراني إلى لحظة الانفجار والانهيار تحت وقع أزماته المركبة كما حصل مع الاتحاد السوفييتي السابق الذي انهار دون حروب خارجية أو كوارث طبيعية، انه سيناريو سوفييتي متطور لمعضلة إيران.